في ثمانينيات القرن الماضي كانت الخطوط الجوية الكويتية من أهم زبائننا في دولة الكويت، نقدم لها خدمات الإعلان والعلاقات العامة من خلال شركتنا «فورتشِن بروموسِفِن»، وعلى مر السنين أصبحت صديقًا حميمًا لأحمد مشاري رئيس مجلس إدارة الشركة ومديرها التنفيذي، وعرفني عليه صديقي في الكويت عهدي المرزوق، الذي كان في الوقت نفسه رئيس تحرير جريدة الأنباء الكويتية.
بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990 اتصل بي أحمد مشاري قائلاً: «أنا في لندن»، وأضاف: «لا نزال نملك أسطولا من الطائرات خارج مطارات الكويت وخارج العمل، تعال إلينا لنفكر سويًا بكيف نستطيع أن نفعل أي شيء لتحسين الوضع».
حينها كان الشعب الكويتي بحاجة إلى التشجيع والأمل، واستطاع أحمد أن يأخذ تسهيلات من بعض الدول لاستعمال مطاراتها لتشغيل بعض الرحلات، وتمكنت من تشغيل بعض الرحلات بين مطارات البحرين والقاهرة ولندن، وبعد عدة اجتماعات مع أحمد في لندن كان يتضح لنا أكثر وأكثر بأن الشركة تستطيع أن تقوم بعمل تحفيزي وتشجيعي للشعب الكويتي بأننا صامدون ونستطيع التغلب على المحنة، فقمنا بناءً على ذلك بتصميم إعلانات بسيطة جدًا وبكلفة منخفضة إذ إن الميزانية كانت صغيرة.
صممنا حملة تحمل شعار «إلى أن نستطيع أن نرحب بكم في الكويت أهلاً بكم على طائرتنا»، ثم واصلنا الحملة مع رسالة قوية جدًا تحت عنوان «اليوم نطير إلى القاهرة ولندن والبحرين وقريبا إلى الكويت»، وعرضت هذه الإعلانات في الصحف العالمية وعلى الـ CNN التي كانت المصدر الرئيس لأخبار الحرب، وفزنا بجوائز عدة عن هذه الحملة لعل أبرزها جائزة Clio في نيويورك، وبعض الصحف أخذت من هذه الإعلانات روحيتها لتستثمرها في حملات سياسية، ولقد نجحنا بالإعلان عن رحلات الخطوط الجوية الكويتية وأن نوصل في الوقت نفسه رسالة للعالم حول صمود الكويتيين وحبهم لبلدهم.
انتهى الغزو العراقي الغاشم للكويت، وعادت الكويت للكويتيين بدعم من أشقائها الخليجيين وتدخل عسكري حاسم من تحالف دولي قادته الولايات المتحدة، وعادت العائلات إلى بيوتها، وأظهر الشعب الكويتي تلاحمًا قلَّ نظيره واجتاز تلك المحنة العصيبة، وتمكن من إعادة بناء بلده وإن كان استغرق ذلك سنوات عديدة، وعادت أيضًا الخطوط الجوية الكويتية للعمل.
ماذا نتعلم من هذا الدرس القاسي؟ أعتقد أن أهم ما نستنجه من التحديات التي نواجهها كأفراد ومجتمعات ودول هو ضرورة تمسكنا بالأمل والعمل، هذا بالضبط ما نحتاجه في جميع الأوقات، نحتاج أن نتحلى بالعزيمة والصبر والحب، أن نتحدى ذاتنا ونخرج من دائرة الراحة، أن ندرك أن أصعب جهاد هو جهاد النفس، أن ننهض من سريرنا صباح كل صباح لنصنع يومًا أفضل.
قرأت مؤخرًا خبرًا حول أن الملياردير الأمريكي، وارن بافيت، باع كل أسهمه في أربع شركات طيران هي الأكبر في الولايات المتحدة بعد أن مُنيَ بخسائر بقيمة 50 مليار دولار، ووصف بافيت الاستثمار في صناعة الطيران «خطأ»، وأعرب عن اعتقاده أن قطاع الطيران سيحتاج لسنوات كي يتمكن من التعافي والعودة إلى المعدلات السابقة.
هل يجب أن تصيبنا هذه الأخبار بالهلع؟ لا أعتقد ذلك؛ لأن بافت ذاته، الذي يبلغ حاليا من العمر 89 عامًا، قال إنه سيتحفظ بالكاش بانتظار فرص استثمارية أكثر جدوى، حتى لو تطلب ذلك أن ينتظر لخمس سنوات أخرى!
الموضوع إذًا يرتبط بالأمل والعمل، والإيمان بشكل مطلق أن الأوقات الصعبة ليست صعبة بقدر ما نتخيل، بل يمكن اقتناص لحظات السعادة والجوانب الإيجابية فيها، كما أن الأوقات الجيدة ليست جيدة بالمطلق، بل تحمل في طياتها لحظات تحدٍ وشقاء، والأهم في ذلك كله هو البقاء على أهبة الاستعداد لتجاوز اللحظات الصعبة والاحتفاء بالأوقات الجميلة.
لقد قدمت مملكة البحرين مشكورة دعمًا كبيرًا للمواطنين، وحتى للمقيمين والشركات، للمساعدة في تخفيف آثار أزمة كورونا الحالية، فالموظفون الآن يجلسون في بيوتهم ويتقاضون رواتبهم، ولا يدفعون أقساط قروضهم المصرفية، ولا أقساط البيوت الإسكانية، ولا ثمن الكهرباء والماء، كما أن الوافدين والعمالة الآسيوية تحديدًا تقيم في أماكن عزل في إجازة مفتوحة وتحظى بوجبات غذائية ورعاية صحية، كذلك تحصل الشركات على منح مالية من «تمكين» ولا تدفع كهرباء وماء ورسوم تنظيم سوق العمل، كما لا تدفع رواتب موظفيها البحرينيين.
هذا جيد جدًا، ومكرمة كبيرة، لكنه يحمل في طياته نوعًا من الخطورة في الوقت ذاته. يجب ألا نعتقد أن هذا الوضع هو الوضع الطبيعي، وألا نفكر ونتصرف وننفق وكأن هذا العطاء والإعفاء الحكومي سيستمر إلى الأبد، بل يجب أن ندخر الأموال التي لا ندفعها حاليا للإيفاء بالقروض، ويجب ألا تركن الشركات إلى المنح المالية والإعفاءات؛ لأنه عندما تعود الحياة إلى طبيعتها يجب ألا يكون الكسل قد أصابنا واعتدنا الحصول على الدعم دون عمل وإنتاج.
يجب أن نستثمر جائحة كورونا الحالية في إعادة ترتيب أولوياتنا بشكل أو بآخر، فقد أبرزت هذه الجائحة أهمية الاهتمام بصحتنا وغذائنا وتقوية جهازنا المناعي، ودفعتنا لتقوية علاقتنا الاجتماعية أكثر، والاهتمام بالأهل والأصدقاء والمعارف من حولنا، وشحذت هِمَّمنا لتجاوز الصعاب.
لقد علمتني أمي -رحمها الله- أن أتحدى الحواجز، ليس هناك جدار أعلى من سور الصين العظيم، لكن حتى هذا السور له مداخل، هذا الدافع لازمني طول حياتي، لم أعتقد أبدًا طوال حياتي بوجود حواجز أمام تحقيق الذات، لا وجود لعبارة «لا يمكن القيام بهذا الشيء» في قاموسي، وإنما عبارة «كيف يمكنني أن أفعل ذلك والوصول إلى ما أريده».
أنت تحصل على ما تتوقعه، إذا أردت شيئًا بقوة، حتى لو كان مستحيلاً، احلم به، اجعله في صميم خيالك، وضَع خطة محكمة ومرنة للوصل له، وستحصل عليه في النهاية، وحتى لو لم تحصل عليه ستحصل على السعادة في الطريق إليه؛ لأن الطريق ربما يكون هو السعادة الحقيقة.