استثمر في لبنان!

عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 خرجت على عجل مع عائلتي إلى الأردن كما خرج مئات آلاف اللبنانيين أمثالي، وكان الاعتقاد السائد أننا سنمكث أسبوعًا أو شهرًا على أبعد تقدير ريثما تهدأ الأوضاع، لكن غربتنا تحولت إلى سنوات وعقود، بل أصبحنا نورثها لأولادنا وأحفادنا.

كنت استرجع تلك الذكريات عندما تلقيت دعوة من وزارة الخارجية والمتغربين في لبنان للمشاركة في مؤتمر بشأن دور المغتربين في إنقاذ لبنان اقتصاديًا، ورغم موافقتي على حضور هذا المؤتمر إلا أنني لست متأكدًا من جدواه، فكل ما يمكن أن نقوم به من أجل لبنان نقوم به بالفعل، لكن الأوضاع هناك تزداد سوءًا عامًا بعد عام وشهرًا بعد شهر ويوما بعد يوم.

لدي استثمارات عقارية في عدد من أهم مناطق بيروت، لكن معظمها متوقف، ولدي استثمار مكدونالدز، وأسعى لتنميته ودعم العاملين فيه، خاصة وأنه أصبح ملجأ الطبقة التي كانت غنية في يوم من الأيام، ولقد سخرنا في مكدونالدز كل جهودنا لتقديم العون لأهالي بيروت الذين تضرروا من انفجار المرفأ من خلال الإيواء والوجبات المجانية، وأحرص بالفعل على دراسة كل فرصة استثمار في لبنان حتى وإن كانت بدون أرباح.

لكن الحق يقال، إن العاطفة، والذكريات، وعدد قليل ممن تبقى من الأهل، هي فقط الأمور التي لا زالت تربط معظم اللبنانيين بمسقط رأسهم، ومن هذا المنطلق لا زال الكثير منهم يقدمون الدعم المادي للبنان، كأشخاص ومؤسسات، بما في ذلك التبرع من أجل الصحة والتعليم.

ولا شك أن الاغتراب كان خلال العقود الأخيرة أحد أهم مصادر الدخل المادي للبنان، هذا الأمر يشكل آخر ضمانة اجتماعية ومالية واقتصادية، خاصة في هذه الظروف القاسية غير المسبوقة التي يمر بها لبنان حالياً من خلال تحويلاتهم المالية واستثماراتهم الدائمة، كما أن المغترب اللبناني يعتبر عاملًا حيويًا ومهمًا بالنسبة للبنان في الوقت الراهن، ومصدرًا مهمًا إن لم يكن شبه وحيد للدخل الوطني والعملات الأجنبية، ويساعد على تعزيز الاقتصاد الوطني من خلال تحويل الأموال إلى البلاد والاستثمار في القطاعات المختلفة وتوفير فرص العمل ودعم الاقتصاد المحلي من خلال مشاريعهم ومؤسساتهم في لبنان.

إضافة إلى ذلك، يعتبر المغترب اللبناني رابطًا قويًا بين البلاد والعالم الخارجي، إذ يمتلك شبكة واسعة من العلاقات الدولية والتجارية، ويستطيع التفاعل مع المجتمعات اللبنانية المنتشرة في الخارج.

وحقاً، لطالما شكل المغتربون اللبنانيون طوق النجاة الذي يتمسك به لبنانيو الداخل على مدى سنوات طويلة، وما زال هؤلاء من أبرز أعمدة الاقتصاد اللبناني، إذ كانوا ولا زالوا يرسلون إلى أهاليهم وعائلاتهم مليارات الدولارات سنويًا. لكنهم، وكحال كل اللبنانيين طالتهم كارثة الانهيار المالي، فجرى حجز أموالهم في المصارف اللبنانية باعتبار أن نسبة كبيرة منهم كان تضع كل مدّخراتها في هذه المصارف، وبخاصة في ظل الفوائد العالية التي كانت تقدّمها البنوك، ما أدى إلى فقدان العدد الأكبر منهم ثقته الباقية بالبلد.

ومن المهم الإشارة إلى أن المغترب اللبناني ليس فقط مصدرًا للدخل والعلاقات الدولية، بل يمثل أيضًا مكونًا أساسيًا للهوية اللبنانية والروح الوطنية. فهو يحمل معه تاريخًا وثقافة وقيمًا لبنانية، ويساهم في نشرها وتعزيزها في المجتمعات التي يعيش فيها. ومع الأوضاع الصعبة التي يعاني منها لبنان حاليًا، فإن المغترب اللبناني يمثل أملاً كبيرًا للبلاد وللمجتمع اللبناني، خاصةً مع عدد المغتربين اللبنانيين الذي يفوق عدد سكانه المقيمين بـ 3 أضعاف، حيث إن الأرقام المتداولة للذين غادروا لبنان خلال العامين الماضيين وحده مخيفة ومربكة. 

وطبقاً للإحصائيات الرسمية، فإن عدد اللبنانيين المقيمين يبلغ نحو 4 ملايين نسمة، يُضاف إليهم نحو مليون لاجئ ونازح سوري ونصف مليون لاجئ فلسطيني، وفي المقابل، يُراوح عدد المهاجرين اللبنانيين والمغتربين من أصل لبناني، المنتشرين خارج لبنان في بلدان العالم ما بين 8 ملايين و12 مليون نسمة، يحتفظ 1.3 مليون منهم بجنسيته اللبنانية، بحسب الشركة الدولية للمعلومات.

ولعل الأخطر هو أن القسم الأكبر ممن ما زالوا يعيشون فيه يتحيّنون الفرصة للهرب بعدما باتت هذه البقعة الصغيرة، التي لطالما كانت محط أنظار العالم واهتمامه وإعجابه وانبهاره، بقعة مظلمة غير قابلة للعيش والازدهار، وهو ما يعكس حجم التحديات التي تواجهها البلاد في الوقت الحالي ووجوب تدخل الحكومة اللبنانية والمجتمع الدولي للعمل على توفير الظروف المناسبة والبيئة الاقتصادية المناسبة لتشجيع المغتربين اللبنانيين على الاستثمار في البلاد، وتبسيط الإجراءات الادارية والتشريعات الضريبية لجعل الاستثمار في لبنان أكثر جاذبية.

وتكمن توابع الأزمات اللبنانية في تسببها بجعل ما يقارب ثمانين بالمئة من الشعب يعيش تحت خط الفقر، بل وتسببت بتعطيل المدارس والجامعات وتردي مستوى المعيشة إلى الأسوأ وانهيار الخدمات العامة وانهيار الليرة أمام الدولار وضعف القدرة الشرائية للمواطن، وانعكست هذه الأوضاع كلها على الحياة الاجتماعية التي انفجرت وباتت تداعياتها تبدو جلية من خلال ما نسمعه وتنقله الصحف والمواقع اللبنانية والعالمية التي تحدثت عن أن سوء الظروف المعيشية دفع ببعض الأسر إلى إرسال أبنائها إلى دور الأيتام بسبب عجزها عن تأمين الغذاء لهم، ناهيك عن زيادة الجرائم خصوصاً جرائم السرقة والسطو المسلح في ظل غياب الدولة.

إن هذا الحضور المهيب للمغترب اللبناني في العالم هو نفط لبنان الحقيقي. إن نفط لبنان في مياهه ليس شيئا مقارنة بنفطه في العالم. نفطه في البحر سينضب يوما، أما نفطه في العالم فلن ينضب أبدًا. النفط في مياهنا قوة اقتصادية فقط، أما نفط المغتربين فهو قوى متعددة بالإضافة إلى القوة الاقتصادية. إنه قوة في العلم والسياسة، قوة في الطب وفي الفن، قوة في الأدب وفي التربية. إنه قوة تجمع حضارات العالم كلها. كما أن هذه القوة ليست محصورة فقط في المغتربين اللبنانيين، بل تمتد أيضًا إلى أبناء الجالية اللبنانية في البلاد، والذين يمثلون جزءًا هامًا من الشعب اللبناني ويساهمون بشكل فعال في تحقيق التنمية والازدهار في البلاد.

ومع تفاقم الأزمات اللبنانية، فإن الوضع يتطلب تحرك كل مواطن لبناني أيًا كان وحيثما وجد، سواء مقيمًا أم مغتربًا، فاليوم لبنان بحاجة إلى كل أبنائه ليتحركوا من أجل إغاثته وإعادة إعماره وترميمه من تداعيات الجمود السياسي الحاصل والأزمة الاقتصادية التي ضربت مختلف المجالات ومقومات الحياة، حيث إن اللبناني المغترب أكثر تمسكاً وحباً لوطنه ومستعد ليقدم الغالي والنفيس كل بحسب إمكانياته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وعدم السماح بانهياره.

إن نجاح أي مؤتمر للمغتربين في لبنان يجب أن يكون مبنيًا على الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل بين جميع الأطراف، وتحقيق العدالة والمساواة والشفافية في الأداء الحكومــي والإداري، ومرتكزًا على قيم الوطنية والانتــماء والشمولية، وضمان الوحدة الوطنيــة الحقيقية بين جمــيع أبنــاء الشــعب اللبناني، وتجــنب الانقــسامات والتجــاذبات السياسيــة والطائفيــة التي تعرقل تحقيق الأهداف الوطنــية العليا.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق