لماذا يصر المتطرفون على تخريب أمننا وتدمير مستقبلنا ومستقبل أبنائنا؟ سؤال يراودنا كل مرة نرى فيها التطرف والجماعات المتطرفة تنفذ أعمالاً تجعلها خطراً عالمياً متعدد الوجوه، فهم يلبسون أحياناً ثوب الدين، وأحياناً أخرى شعارات القومية والوطنية، في حين أن هدفهم النهائي لا يمت للدين أو الوطن بصلة.
ولعل الحادثة الأخيرة التي جرى خلالها مقتل جنديين أمريكيين في سوريا إثر هجوم نفذه مسلح تابع لتنظيم الدولة الإسلامية، تذكرنا مجدداً بالخطر الكبير الذي يشكّله هؤلاء المتطرفون على البشرية جمعاء، وبأن التطرف العنيف لايزال حياً ويتغذى على الفوضى والصراعات الممتدة، فكم من الأرواح يجب أن تُزهق قبل أن يدرك الجميع أن هذه الجماعات لا تمثل ديناً ولا قضية، بل تمثّل مشروع خراب دائم لأوطاننا؟ هذه التنظيمات لا تبني أي وطن، ولا تحمي أي شعب، ولا تدافع عن كرامة أي شخص، بل تقتات على الدم والفتنة والانقسامات، وتعيش على تدمير أي فرصة للاستقرار.
المشكلة أن كثيرين ما زالوا يتعاملون مع التطرف وكأنه شأن ديني فقط، بينما الواقع يقول إن هذا التوصيف لم يعد كافياً، نعم، هناك تطرف ديني دموي ظاهري غير مقبول أبداً، كما نراه في تنظيمات داعش وغيرها، لكن غايتها الجوهرية ليست الدين بالتأكيد، كما أن التطرف الديني ليس الشكل الوحيد، ففي أوروبا اليوم نشهد صعود اليمين المتطرف بخطاب كراهية علني ضد المهاجرين، وضد الأقليات، وضد كل ما هو مختلف، وهذا النوع من التطرف لا يحمل سلاحاً في كل مرة، لكنه يزرع الخوف، ويشرعن الإقصاء، ويهيئ الأرضية لعنف قادم قد يكون أشد فتكاً من أي نوع آخر من التطرف.
التاريخ الأوروبي نفسه شاهد على أن الأفكار المتطرفة حين تُترك دون مواجهة فكرية وأخلاقية، تتحول بسرعة إلى كوارث إنسانية، فتبدأ بخطاب كراهية مقبول اجتماعياً، ثم تتطور إلى سياسات إقصاء، وتنتهي بعنف منظّم يدفع ثمنه الأبرياء قبل غيرهم، وقد أثبتت التجارب القاسية أن التساهل مع التطرف، أو تبريره بحجة الخوف أو الحفاظ على الهوية، لا يحمي المجتمعات بل يدمّرها من الداخل، ويقوّض قيم العدالة والحرية التي قامت عليها، وحين تُختزل الشعوب في أصولها أو أديانها أو ألوانها، وتُحول الاختلافات الطبيعية إلى تهديد وجودي، يصبح الطريق ممهداً أمام الانقسام والصدام، ويُفتح الباب واسعاً أمام دورات جديدة من العنف لا يمكن احتواؤها بسهولة.
والأخطر من كل ذلك أن التطرف في منطقتنا وعالمنا ومجتمعاتنا لم يعد محصوراً في الدين أو السياسة فقط، بل حتى أصبح التطرف اقتصادياً ومالياً، فمن التطرف اليوم أن يعيش شخص واحد بثروة تقدر بمئات المليارات، بينما يعجز مليار إنسان عن تأمين وجبة طعام يومية، فهذا ليس من المفترض أن نسميه خلل اقتصادي، بل شكل من أشكال التطرف المالي الذي يُنتج فقراً مدقعاً، ويغذي الغضب، ويخلق بيئة مثالية لنمو العنف والكراهية، فحين يشعر الإنسان أنه منسي ومهمش، بلا أفق، يصبح أكثر عرضة للوقوع في فخ الخطابات المتطرفة التي تعده بالخلاص، حتى لو كان هذا الخلاص وهمياً ومدمراً.
ما يجمع بين المتطرف الديني الذي يفجّر نفسه، والمتطرف القومي الذي يحرّض على الكراهية، والمتطرف المالي الذي يراكم الثروة بلا حدود، هو غياب الإحساس بالمسؤولية الإنسانية؛ فكلهم يرون العالم من زاوية واحدة ضيقة، ويبررون لأنفسهم تدمير الآخرين ومستقبلهم تحت ذريعة أنهم يعرفون العالم بشكل أفضل من الجميع، وفي كل الحالات الضحية واحدة، وهو الإنسان البسيط، والأسرة الآمنة، ومستقبل الأطفال والأجيال الناشئة.
تيار التطرف اليميني الشديد يضرب أميركا وأوروبا في مرحلة ما بعد الحداثة، وتيار التطرف الديني يضرب العالم كله، وليس فقط العوالم العربية والإسلامية والهندوسية والبوذية، ما يؤكد أن المشكلة لم تعد مرتبطة بثقافة بعينها أو جغرافيا محددة، بل بأزمة إنسانية أعمق تتغذى على الخوف والجهل والشعور بالتهديد، ففي كل مرة يفشل فيها العالم في إدارة التنوع أو توزيع الفرص بإنصاف، تخرج هذه التيارات من هامش المجتمع إلى قلبه، مستغلة الإحباطات الجماعية وفراغ القيم لتبرير العنف والدماء.
ومع انتشار أشكال التطرف الديني بشكل أكبر في الدول الإسلامية، أصبح للتعصب الديني الأثر الأكبر في تشويه صورة الإسلام أمام العالم، إذ اختزل هؤلاء المتطرفون دين الرحمة والعدل في مشاهد عنف وقتل لا تمت إلى جوهر ديننا الحنيف بصلة، ما سبب حرجاً للإسلام والمسلمين في الغرب عموماً وفي أوروبا على وجه الخصوص، حيث أصبحت مجتمعات الاستقبال الأوروبية تمارس ضغطاً كبيراً على الجاليات والأقليات المسلمة، وذلك للشكوك لديها حول الاتجاه العام الذي تمضي نحوه هذه الشريحة من المسلمين داخل المجتمعات الغربية وأي إسلام تتبناه.
وعندما نتحدث عن التطرف في مجتمعاتنا، فالحقيقة أنه مع بدايات القرن الجديد أُصيبت المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج بداء التطرف الديني، ورافقتها موجات من التعصب الطائفي والتشدد المذهبي الذي حاول أن يحل محل الدولة الوطنية ويقوّض مفهوم المواطنة الجامعة، وقد امتد هذا الخلل إلى المنطقة الخليجية أيضاً عبر محاولات زرع الانقسام وبث خطاب الكراهية المذهبية، مستفيداً من صراعات إقليمية وتدخلات خارجية كان لإيران فيها الدور الأكبر من خلال دعم جماعات وتنظيمات طائفية، وتوظيف الدين كأداة نفوذ سياسي تخدم مصالحها
المؤلم والمحزن أن المتطرفين لا يدمرون الحاضر فقط، بل يسرقون المستقبل منا ومن فلذات أكبادنا، يزرعون الخوف بدل الأمل، والعنف بدل الحوار، والانقسام بدل التعايش، فكل هجوم إرهابي، وكل خطاب كراهية، وكل فجوة اقتصادية فادحة، تعني سنوات إضافية من عدم الاستقرار، وتعني أجيالاً جديدة ستنشأ وهي ترى العالم مكاناً غير آمن وغير عادل، وهذا بالضبط ما يغذي الدائرة المغلقة للتطرف: عنف يولّد عنفاً، وتهميش يولّد كراهية.
مواجهة هذا الواقع يجب أن تكون أكثر قوة، وأن نستثمر في الوعي المجتمعي بخطورة التطرف والمتطرفين، وألا نواجه هذه الحقيقة بالشعارات والقوة الأمنية فقط، بل بالاعتراف أولاً بأن التطرف مشكلة شاملة، تحتاج إلى تعليم وتثقيف ووعي، وخطاب إعلامي مسؤول، وسياسات تحمي الإنسان قبل أي شيء آخر، فالجميع الآن، وخاصةً في ظل ما يشهده العالم من نزاعات، أصبح يتوق إلى عالم لا يبرر الكراهية والتطرف،
