قمة خليجية بأثر عالمي

الحضور القوي المتعاظم لجميع دول الخليج: المملكة العربية السعودية وشقيقاتها، على الساحة العالمية وعلاقاتها الوطيدة وشراكاتها الراسخة وانفتاحها مع القوى العظمى كأمريكا والصين وأوروبا، جعل القمة الخليجية السادسة والأربعين لأصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حفظهم الله ورعاهم، التي استضافتها مملكة البحرين، محط اهتمام ليس خليجي فقط، وإنما عربي وعالمي، وهذا ما بدا جلياً خلال القمة حيث حملت معها رسائل سياسية واقتصادية تجاوزت حدود الخليج لتبلغ العالم بأسره.

لطالما آمنت البحرين بأن قوة الخليج هي قوة للعرب جميعاً، وقوة العرب هي قوة المنطقة، وقوة المنطقة هي قوة العالم، ولذا فقد جاءت هذه القمة انعكاساً مباشراً لرؤية حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، وقادة الخليج أجمعين، والقائمة على تعزيز وحدة الصف الخليجي والعربي والإقليمي والعالمي، وترسيخ التعاون، ودعم مسارات السلام والاستقرار والازدهار في جميع أنحاء العالم.

ولم يكن الأثر العالمي الكبير لهذه القمة والتغطية الإعلامية الواسعة التي حظت بها مفاجئاً، فالخليج بات في صميم معادلات النفوذ الدولي، خاصةً مع ما يمتلكه من شبكات دبلوماسية واقتصادية مع أبرز الدول حول العالم، ما جعل القمة حدثاً لا يمكن للعالم تجاهله، فحين تجتمع دول بثقل كثقل دول الخليج، لا بد للجميع أن يترقّب ما سيصدر عنها من مواقف وقرارات ومخرجات، لأن انعكاساتها تمسّ بلا شك أسواق النفط والطاقة والغاز والاستثمارات العالمية، وتؤثر على المنطقة بأكملها.

ولعل أحد أهم أسباب هذا الاهتمام العالمي هو النموذج الخليجي ذاته، الذي بات يُنظر إليه اليوم كنموذج تنموي ناجح في التنمية والازدهار، وصار يستقطب أنظار العالم حتى الدول المتقدمة مثل بريطانيا وغيرها، التي بدأنا نرى مواطنيها يتجهون بإقبال لافت نحو الخليج، سواء على مستوى الاستثمارات أو حتى انتقال الأفراد للعيش والعمل، بسبب ما توفره المنطقة الخليجية من مستويات عالية من الأمن والرفاهية، وضرائب أقل وتسهيلات استثمارية تنافسية، ومستقبل أفضل للجميع، وكلها عناصر جعلت من دول الخليج بيئة جاذبة، ومكاناً مثالياً مفضلاً لدى الكثيرين.

وقد انعكس هذا النموذج الخليجي الرائد على المنطقة العربية نفسها بشكل كبير، فالكثير من الدول العربية باتت تنظر خلال الأعوام الماضية إلى التجربة الخليجية باعتبارها درساً عملياً في كيفية تقديم الدولة الوطنية على أي انتماءات أو أولويات أخرى، فدول مثل العراق ولبنان وسوريا كانت الطائفية والفئوية تنخر فيها، وتتقدم على المصالح الوطنية والمواطنة، وبالتالي تضعف الدولة وتظهر الانقاسامات، لكن اليوم نرى هذه الدول بدأت تتفحص تجربة الخليج وتحرص على استلهامها وتطبيقها، فبدأت موجات جديدة من الوعي تتشكّل فيها.

وما بين مسارات التنمية الاقتصادية والبشرية، كان للمجتمعات الخليجية نفسها دور كبير في تعزيز هذا المشهد الجاذب، فقد شهدت دول الخليج خلال العقد الأخير تطورات كبيرة وتحولات اجتماعية وثقافية لافتة، انفتحت خلالها على العالم دون أن تفقد هويتها الأصيلة، وتميزت في صناعات التقنيات الناشئة والتكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وغيرها، والتي احتلت فيها موقع الريادة الإقليمية والدولية، كما حققت سجلاً زاخراً بالإنجاز في مختلف المجالات الحيوية التي تشكّل عصب الاقتصاد الوطني بما فيها قطاع الخدمات المالية والسياحة والتعليم وغيرها، وتبنّت رؤى اقتصادية متقدمة حتى باتت دول الخليج اليوم منصات عالمية للتكنولوجيا والابتكار، تستقطب الشركات الناشئة والكبيرة ومتعددة الجنسيات، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والشباب الطموح من كل مكان، وهذا التحوّل هو نتيجة تخطيط دقيق وإرادة سياسية واضحة وأجندات تنموية تنظر إلى المستقبل بثقة وقوة وعزم.

ووسط هذا الزخم الخليجي المتنامي، جاءت القمة الخليجية السادسة والأربعين في البحرين لتعكس أبعاداً عميقة قائمة على دعوة البحرين الثابتة والدائمة لوحدة الصف، والتعاون والعمل الخليجي والعربي المشترك، وإرساء أسس السلام والأمن والازدهار، والتعامل مع التحديات بوعي ومسؤولية.

لقد نجحت البحرين في تنظيم حدث يليق بتاريخها الدبلوماسي وبقناعة قيادتها الرشيدة بأهمية الحوار والشراكة، ولعل هذا ما منح القمة بُعدها العالمي هو أن رسائلها لم تقتصر على الداخل الخليجي، بل توجهت نحو المجتمع الدولي، في توقيت يشهد تحولات متسارعة على مستوى الأمن والطاقة والاقتصاد.

كما كشفت استضافة البحرين لهذه القمة مجدداً قدرة دول الخليج على تشكيل مستقبل المنطقة، فاليوم تمتلك دول الخليج أدوات التأثير، وشبكات النفوذ، وموارد القوة الناعمة والصلبة، ما يجعلها لاعبًا دوليًا محوريًا، وليس مجرد طرفٍ إقليمي، وبذلك أصبحت قمم الخليج محطات تمسّ العالم بقراراتها ومواقفها، لأنها تصدر عن دول أثبتت أنها قادرة على بناء اقتصاد مستدام، وإرساء مجتمعات مستقرة، والدخول في شراكات عالمية تحترم مصالحها وتوازناتها.

ولا شك في أن استضافة المملكة للقمة الخليجية للمرة الثامنة هي تجسيد لالتزامها بثوابت سياستها المساندة لمسيرة التعاون الخليجي المشترك، والتي يحرص القادة على رعايتها والدفع بها إلى الأمام انطلاقًا من الإيمان بضرورة تعزيز منظومة العمل الخليجي لتحقيق أهدافها السامية نحو المزيد من الترابط والتعاون والتنسيق والتكامل بين دول المجلس، وتلبية تطلعات شعوبها في التنمية والتطور.

القمة الخليجية السادسة والأربعين كانت مرآة للواقع الجديد الذي يعيشه الخليج وشعوبه، واقع الحضور الدولي والريادة العالمية، والنماذج التنموية الملهمة، والتحوّلات الاقتصادية والاجتماعية، والدعوات المتجددة للوحدة والسلام، إذ بدت مخرجات القمة كأنها تلخيص لمسار طويل قطعته دول الخليج بثبات وثقة نحو مستقبل أكثر نضجًا واستقرارًا، في ظل رؤى وتوجيهات أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حفظهم الله ورعاهم، الداعمة للتضمان والتكامل الخليجي باعتباره حاضر ومستقبل الدول والشعوب الخليجية.

كل خليجي وعربي يعقد آماله على أن تكون هذه المرحلة الجديدة من العمل الخليجي المشترك بدايةً لمزيد من والحدة والقوة والتأثير، وأن تتحول نتائج القمة إلى برامج واقعية تعزز التنمية وتدفع المنطقة نحو مستقبل مستقر ومزدهر، ونتطلع جميعنا إلى خليج يستمر في تقديم النموذج الملهم للعالم، خليج يوازن بين هويته الراسخة وطموحاته الواسعة، ويمضي قدماً في طريقه بثقة، حاملاً معه آمال العرب نحو غدٍ أفضل.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق