يعود هذا السؤال إلى مائدة النقاش كلما برزت شخصية عالمية لا تنتمي في عمقها إلى المدرسة التقليدية في العمل السياسي، بل تستند إلى عقلية تجارية صريحة، كما هو حال الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فهو لم يخفِ يوماً أنه يتعامل مع السياسة بمنطق الصفقة، وأنه يرى العالم في قالب الفرص والمصالح والموازنات، وليس من الزاوية التي ينظر منها أي سياسي، ومهما اختلفنا معه، لا يمكن تجاهل أن خطوات عديدة اتخذها خلال سنواته في الحكم انطلقت من هذا المنطق البراغماتي، الذي يصب في خدمة ما يراه مصلحة مباشرة للولايات المتحدة، وهي خطوات مهمة بدون شك.
لكن علينا كعرب ألا نعتقد أن ترمب أصبح يفضل العرب على إسرائيل، أو يتقرب من العرب أكثر أكثر من إسرائيل، أون منطق ترمب قد يدفع الإدارة الأميركية إلى تبني مواقف داعمة للعرب، فهو حتى الآن لا يريد أن يضع يده بيد العرب ويفهم الموقف العربي الثابت الذي يريد حل الدولتين، وحتى الدول العربية التي اعترفت بإسرائيل وأقامت علاقات دبلوماسية معها، لا تزال تصر على ان الحل الوحيد لوقف النزاع في العالم العربي يكمن في حل الدولتين، لأن غياب هذا الحل أو اللجوء إلى الحلول المؤقتة تعني استمرار دوامة العنف والدماء والتوترات والانقسامات التي تستنزف المنطقة منذ عقود.
وخلال ما تابعناه من لقاءات مؤخراً في واشنطن بين الأمير محمد بن سلمان وترمب، كان من الواضح أن العلاقة بينهما لم تكن دائماً مثالية كما يظن البعض، وأن ليست كل الامور بينهما كانت تسير بأفضل صورة، فثمة بعض الاوراق وخاصةً السياسية التي شكّلت نقاط خلاف شديدة بين أمريكا والسعودية، وفي مقدمتها الملف الفلسطيني، والقضية الفلسطينية.
فرغم أن ترمب لا يريد أن يفسد العلاقات التجارية القوية مع دولة مثل السعودية بأي ثمن وتحت أي ظرف، إلا أنه لا يتردد في إظهار عدم اقتناعه بحل الدولتين، وهذا بحد ذاته وضع مساحة من التوتر السياسي الذي لم يكن بالإمكان تجميله مهما كانت المصالح الاقتصادية متينة.
كان موقف الأمير محمد بن سلمان واضحاً وصريحاً، وهو أنه لا حل مع إسرائيل إلا بحل الدولتين، وهو موقف واقعي ومنطقي، لأن السياسة ليست شعارات ولا عواطف، بل حكمة وإدارة عقلانية، وطبعاً الأمير محمد بن سلمان وطني بامتياز، يحب العرب وعروبته ودينه، لكن لا تطلب منه إلا المستطاع، ويكفي أن موقفه كان واضحاً، فهو لم يطالب إلا بما يراه المنطق حلاً عملياً، وطريقاً مجدياً للاستقرار للمنطقة أجمع.
إن أراد ترمب أن يبرهن على صدق وحسن نواياه، وتفهمه لمطالب الأمير محمد بن سلمان ودول الخليج، فما أسهل من تنفيذ حل الدولتين بالنسبة له، خاصةً الآن، فحل الدولتين بالنسبة لإدارة تتمتع بعلاقات هائلة مع إسرائيل كان يمكن أن يكون خطوة واقعية، بل إن الظرف الإقليمي اليوم قد يكون أكثر ملاءمة من أي وقت مضى، لكن من الواضح أن أمريكا كعادتها تفضّل إبقاء بعض ملفات المنطقة مفتوحة، واستخدامها كأوراق ضغط سياسية أو تجارية أو تفاوضية.
وما جرى في غزة ولبنان مثال واضح على ذلك، فكل الحلول التي طُرحت على العرب في هذين الملفين بقيت مواضيعاً للمراوغة والمساومة، أكثر منها حلولاً نهائية، وهذا يذكرنا أيضاً بالفارق بين اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، التي كانت حاسمة ونهائية، ولا مراوغة أو مماطلة بها، وبين طريقة إدارة الأزمات الحالية في الشرق الأوسط التي لا تعتمد على الحسم.
فحتى ورقة حماس وورقة حزب الله لم تعد ذات الوزن السابق، وباتت أوراقاً معلقة للنقاش والمساومة بين أمريكا وإيران، وأنا أعتقد بأن هذا النقاش هو نقاش تجاري بحت، فلا حزب الله قادر على أن يهاجم أو يعيد بناء نفسه كما يدّعي هو أو تدّعي اسرائيل، ولا حماس تريد السلة بدون عنب، لذا فالنقاش أقرب إلى المساومات التجارية، كل طرف يريد أن يحصل على شيء مقابل شيء، وإيران تعلم جيداً أن هذين الحليفين لم يعد وضعهما سليماً، وأنهما لم يعودا بالأذرع ذات القيمة الكبيرة، وإنما مجرد أوراق للمساومة البسيطة الضعيفة، فلا فلا حماس تعني شيئا لأمريكا، ولا حزب الله يعني شيئا لاسرائيل، أو كليهما.
وفي النهاية الشعبين اللبناني والفلسطيني هما وحدهما الذان يبقيان في دائرة الجمود، خطوة للأمام وخطوة للخلف، وربما يكون الوضع أفضل بقليل في لبنان، فيتقدم بخطوتين إلى الأمام وخطوة للخلف، لكنه يظل محاصراً بالمعادلة نفسها.
والمثير للدهشة هو أن العديد من الاستطلاعات الحديثة تدل على أن اليهود أنفسهم لا يريدون إسرائيل، وأنهم يفضلون الاستقرار في الغرب، وبالأخص في الولايات المتحدة، حيث الفرص الاقتصادية أكبر، وحيث التجارة والمال والازدهار أكثر وفرة وقوة، لكن أعتقد بأن أمريكا والصهيونية لن تسمحا لإسرائيل بالطبع بأن تزول عن الوجود، أو تضعف.
وها قد انتهت سنة الآن تقريباً على الولاية الثانية لترمب، ويبدو أنه لا يزال يتعامل مع الملفات الإقليمية والدولية بالطريقة ذاتها، يلعب بالأوراق ولا يحسم أي قضية، ولعل النموذج المغاير تماماً الذي نستذكره في هذا الموقف هو الصين، الدولة الناجحة تجارياً وسياسياً معاً، التي تعمل بهدوء وصمت، لا تجبر أحداً على اتخاذ أي موقف محدد، وتحاول بقدر المستطاع أن تنأى بنفسها عن أي خلاقات إقليمية، وألا تتورط في أي صراعات لا طائل منها، فهي تركز على اقتصادها، وتضع مصالحها فوق كل شيء.
المهم بالنسبة للصين هو الصين فقط، وهذا ما نتمنى أن يصبح نهجاً عاماً لدى دول العالم كافة، بأن تضع كل دولة احتياجاتها ومصالحها الأساسية على سلم الأولويات، وتبتعد عن التورط في نزاعات إقليمية أو مساومات خارجية تستهلك طاقتها وتعرقل تنميتها، فالحكمة تقتضي أن تبدأ قوة الدول من الداخل، من اقتصاد متين، ورؤية واضحة، واستقلالية في اتخاذ القرار، قبل الانخراط في أي ملفات أخرى.
وهنا نعود للسؤال الأول، من الأنجح في قيادة العالم، التاجر أم السياسي؟ التاجر يفكر بمنطق المصلحة المباشرة والربح والخسارة، والسياسي يفكر بمنطق التوازنات والتحالفات والأنظمة، لكن العالم اليوم يحتاج إلى قائد يجمع الاثنين معاً، براغماتية التاجر، وحكمة السياسي، لأن القضايا الكبرى لا يمكن أن تُدار كصفقة، ولا أن تعالج بخطاب مبهم أو بوعود مؤجلة.
