إن جذب الاستثمارات ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو أداة استراتيجية تستخدمها الدول لتحقيق التنمية الشاملة. إنه يرسل رسالة قوية للعالم بأن الدولة مستقرة، ولديها بيئة أعمال جاذبة، وأن مستقبلها الاقتصادي واعد، مما يعزز الثقة ويضمن استمرار التدفقات المالية اللازمة لتوفير فرص عمل وبناء اقتصاد ومجتمع قوي ومزدهر.
والبحرين، بتاريخها العريق كمركز للتجارة والتبادل، ترسخ مكانتها اليوم كبوابة استثمارية استراتيجية للخليج،ويتجسّد هذا الدور المحوري في استضافتها السنوية لـ “منتدى بوابة الخليج الاستثماري” (Gateway Gulf Investment Forum) ، الذي يدشن نسخته الثلاثة غدا الأحد، وفي الواقع لا يمثل هذا المنتدى مجرد تجمّعٍ لقادة الأعمال والمستثمرين، بل هو منصة حيوية تنبض بروح التعاون والابتكار، وتطلق العنان للفرص الكامنة في إحدى أكثر مناطق العالم نموًا وحيوية.
وأنا كمستثمر لي باع طويل في هذا المجال، أرى أن تنظيم مملكة البحرين لمنتدى بوابة الخليج يأتي ليؤكد على رؤيتها الاقتصادية الطموحة التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل، وتعزيز تنافسيتها العالمية. ففي الوقت الذي تشهد فيه الأسواق العالمية تحوّلات متسارعة، يرفع المنتدى شعارًا محوريًا، غالبًا ما يدور حول “الاستثمار في منطقة مزدهرة” أو “إعادة التفكير في الاستثمار العالمي والتحولات التجارية الجديدة”. هذا الشعار ليس مجرد عنوان، بل هو دعوة مفتوحة لقادة المال والأعمال العالميين لاستكشاف الإمكانات الهائلة التي تزخر بها دول مجلس التعاون الخليجي، التي يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي التريليوني دولار أمريكي، ومن المتوقع له أن يلامس مستويات قياسية في العقود القادمة.
قرأت عن هذا الحدث الذي يحظى برعاية واهتمام كبيرين، وأبارك جهود مجلس التنمية الاقتصادية في تنظيمه، وكيف تمكن من الارتقاء بمنتدى بوابة الخليج عاما بعد عام، وتعزيز مستوى الحضور من وزراء ومسؤولين حكوميين كبار من البحرين ودول الخليج، وكبار الرؤساء التنفيذيين وقادة الأعمال من أقوى الاقتصادات العالمية في أمريكا وأوروبا وآسيا، إضافة إلى المستثمرين وصنّاع القرار الباحثين عن فرص النمو المرتفع.
هذا المزيج الفريد من الحضور يضمن أن تكون النقاشات ذات مستوى عالٍ من الأهمية، وأن تثمر عن شراكات استراتيجية وقرارات استثمارية ملموسة. فضلًا عن الجلسات النقاشية التي يديرها خبراء عالميون في مجالاتهم، يوفر المنتدى بيئة مثالية لعقد اللقاءات الثنائية والاجتماعات الخاصة، مما يسرّع من وتيرة اتخاذ القرارات وإبرام الصفقات.
طبعية الأعمال تتغير وتتبدل. أنا بدأت حياتي في صناعة الإعلان، كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، كان ظهور إعلان مطبوع أو تلفزيوني يعتبر قمة التطور آنذاك، أما الآن فأصبحت الحملات التسويقية تنفذ عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتستخدم التحليل النفسي، والذكاء الاصطناعي.
لذلك تبرز الموضوعات الجديدة التي يطرحها منتدى بوابة الخليج والقطاعات التي تقود عجلة النمو في المنطقة، مثل الاقتصاد المستدام والانتقال في مجال الطاقة، والثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، وتنمية القوى العاملة ورأس المال البشري، والقطاعات الحيوية الواعدة: كالصناعة، والخدمات المالية، والسياحة، والخدمات اللوجستية، التي تساهم في البحرين بأكثر من 86% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي.
لقد أثبت منتدى بوابة الخليج في نسخه المتتالية أنه أكثر من مجرد حدث فكري؛ إنه محرك فعلي للاستثمار. على سبيل المثال، اختتمت إحدى نسخ المنتدى بإعلانات وصفقات استراتيجية تجاوزت قيمتها 12 مليار دولار أمريكي. هذه الأرقام الضخمة ليست مجرد إحصائيات، بل هي شرايين اقتصادية جديدة تضخ الحياة في مشاريع التنمية المحلية والإقليمية، وتخلق فرص عمل، وتساهم بشكل مباشر في تحقيق الأهداف التنموية المستدامة.
كما أن المنتدى يعزز من مكانة البحرين كمركز مالي إقليمي رائد، حيث يوفر للمستثمرين العالميين بيئة تشريعية مرنة وتنافسية، وحوافز استثمارية جاذبة، وبنية تحتية متطورة، مما يجعلها “نقطة دخول” مثالية إلى الأسواق الخليجية الأوسع.
إن نجاح البحرين في تنظيم واستضافة هذا المنتدى يعكس الثقة الكبيرة التي توليها الأسواق العالمية في اقتصاد المملكة وقدرتها على توفير بيئة استثمارية مستقرة وشفافة. فالمنتدى لا يقتصر على عرض الفرص، بل هو منصة لمناقشة التحديات وإيجاد حلول مبتكرة لها، في حوار مفتوح بين القطاعين العام والخاص. هذا النهج التشاركي هو ما يميز التجربة البحرينية في مجال الاستثمار.
أود أن أؤكد على مسألة بالغة الأهمية، وهي إيمان المستثمرين المحليين بإمكانات وطنهم كقوة دافعة لا تقل أهمية، بل قد تفوق أحيانًا، الاستثمار الأجنبي المباشر. إن هذا الإيمان هو حجر الزاوية الذي تبنى عليه الثقة الاقتصادية الشاملة والمستدامة.
فالمستثمرين المحليين هم الأكثر دراية بظروف السوق المحلية، والقوانين، والمخاطر، وعندما يُظهر هؤلاء المستثمرون التزامًا طويل الأجل بضخ رؤوس أموالهم في مشاريع وطنية، فإن ذلك يرسل رسالة قوية إلى كل الأطراف، بما فيها المستثمر الأجنبيحيث عتبر الاستثمار المحلي بمثابة “شهادة جودة” على البيئة الاستثمارية، كما يعزز يعزز الثقة في المنتجات والخدمات الوطنية ويشجع على دعم الاقتصاد المحلي، ويؤكد نجاح الإصلاحات الاقتصادية ويشجع على الاستمرار في تطبيقها.
وغالبًا ما يمتلك المستثمر المحلي رؤية طويلة الأمد لنمو بلده، على عكس بعض الاستثمارات الأجنبية التي قد تكون قصيرة الأجل أو “ساخنة” تسعى لتحقيق أرباح سريعة، فرأس المال الصبور للمستثمر المحلي يتميز بالاستدامة مما يوفر استقرارًا أكبر للاقتصاد الوطني، والمستثمرون المحليون يشاركون بفاعلية أكبر في المشاريع الضخمة التي تحتاج إلى سنوات طويلة لتحقيق العائد، مثل تطوير البنية التحتية، أو الصناعات الثقيلة، أو قطاعات التعليم والرعاية الصحية.
أود أن أركز بشكل خاص عن الجهود التي يبذلها مجلس التنمية الاقتصادية في تعزيز مكانة البحرين كمركز استثماري ومالي رائد في المنطقة، حيث يعمل المجلس، مدعومًا بنهج “فريق البحرين” الذي يجمع القطاعين العام والخاص، كوكالة ترويجية استثمارية تعمل على استقطاب وتحفيز الاستثمارات النوعية ذات الأثر التنموي، ولقد شاركت في العام 2018 فرصة المشاركة في رحلة استثمارية نظمها المجلس إلى إيطاليا، ورأيت عن كثب كيف تعمل الكوادر البحرينية على جذب الاستثمارات النوعية من إيطاليا، ومن حول العالم.
إن نجاح البحرين في جذب الاستمثارات من خلال منتديات مثل بوابة الخليج يعتبر دليلًا ساطعًا على التزام المملكة بلعب دور طليعي في تشكيل المستقبل الاقتصادي للمنطقة، والربط بين رأس المال العالمي والفرص الخليجية، وإعلاء قيمة الحوار والشراكة في سبيل تحقيق النمو المستدام والازدهار الشامل للجميع.
