العضل الأمريكي

توقفت كثيرا عند صورة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلف مكتبه في البيت الأبيض، وأمامه جلس قادة أوروبا مجتمعين ليخبرهم بخارطة أوكرانيا الجديدة بعد اجتماعه مع بوتين في ألاسكا، وهو اجتماع حرص فيه ترامب أيضا على استعراض العضل الأمريكي من خلال العرض الجوي لطائرات الشبح والـ B52 الضاربة.

في الواقع لا يمكن إنكار أن القوة تظل الحل الوحيد في عالم مليء بالصراعات رغم كل الأحاديث عن السلم والتعايش والحقوق، خاصة ونحن نرى أن الدول الكبرى تفرض رؤيتها ومصالحها على الآخرين في السياسة والاقتصاد، وإذا تحدثنا عن هذا المعنى بواقعية، فلن نجد مثالاً أوضح من الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الدولة العظمى التي لا تزال، رغم كل ما يقال عن صعود منافسين جدد مثل الصين أو روسيا، تملي ما تريده على العالم بأسره وتفرض نفسها لاعباٍ أساسياً لا يمكن تجاوزه.

لم تشهد البشرية في تاريخها قوة مهيمنة مثل أمريكا، التي تمارس نفوذها على المسرح العالمي بدرجة لا مثيل لها، وهذه الهيمنة تقوم على أركان ملموسة؛ تفوق عسكري لا ينازع، ونظام مالي يتحكم في الاقتصاد العالمي، وقدرة ثقافية على تشكيل الرأي العام الدولي

وطبعاً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشخصيته المعروفة للجميع، يكرّس الفكر الأمريكي المتشبع بالمباهاة والغرور، فهو لم يخفِ لحظة واحدة أن أمريكا بالنسبة له فوق الجميع، وأنها تملك الحق في فرض ما تراه مناسباً على الآخرين، قد يختلف الناس حوله داخلياً، لكن لا شك أنه جسّد أمام العالم صورة أمريكا الواثقة بنفسها والمستندة إلى ترسانة عسكرية واقتصادية لا تضاهى، وربما لم يأتِ ترامب بجديد بقدر ما كشف بوضوح عن جوهر العقلية الأمريكية، وهي أن من يقف مع أمريكا ويكون مع جانبها ويخضع لشروطها، ستحميه وتدعمه بكل ما تملك، خصوصاً عسكرياً

أمريكا تمتلك أقوى جيش في التاريخ البشري، بميزانية دفاع تتجاوز ميزانيات عشر دول مجتمعة، كما أن السفن الحربية الأمريكية تجوب كل محيطات العالم، بالإضافة إلى وجود 800 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة في أكثر من 70 منطقة حول العالم، وأكثر من 150 دولة في القارات كافة، وتتنوع بين قوات برية وبحرية وجوية، وكلها بمثابة أذرع ممتدة للنفوذ الأمريكي، ولا شك في أن هذه القوة العسكرية توفر للولايات المتحدة ورقة ضغط لا تمتلكها أي دولة أخرى.

الولايات المتحدة لا تحكم فقط بالدبابات والطائرات، بل وبواسطة النظام المالي العالمي، فالدولار الأمريكي هو العملة الاحتياطية العالمية، مما يمكن واشنطن من فرض عقوبات اقتصادية تجبر الدول على الرضوخ لإرادتها، والشركات التكنولوجية العملاقة مثل جوجل وأبل وأمازون ومايكروسوفت كلها في أمريكا، ولم تعد مجرد منصات تجارية، بل أدوات لنشر النموذج الأمريكي وقيمه وتوجهاته.

هوليوود، نيتفليكس، يوتيوب، فيسبوك، كلها أدوات لنشر الثقافة الأمريكية وقيمها، وما تريد من العالم أن يفهمه ويدركه بالضبط، الطفل في الصين يشاهد نفس المسلسلات التي يشاهدها الطفل في أمريكا، والأطفال في الوطن العربي على سبيل المثال يلعبون نفس الألعاب الإلكترونية التي يلعبها الأطفال في أوروبا، وهذه الهيمنة ربما لا يبدو مدى تأثيرها، لكنها تشكل تصورات الشعوب وتطلعاتها وتمنياتها دون أن تدري.

لكن من ناحية أخرى، لا يمكن أن نتجاهل أن هذا النفوذ الأمريكي يعود بالنفع على كثير من حلفائها، فالدول التي اختارت أن تكون إلى جانب الولايات المتحدة، تجد نفسها في موقع قوة، محمية بالغطاء الأمريكي السياسي والعسكري، وهذه الحماية تمنحها نفوذاً إقليمياً لا تستطيع تحقيقه بمفردها، وهكذا فإن الرسالة الأمريكية واضحة: كن معنا، وستحصل على دعم لا مثيل له، ولكن اختر أن تكون ضدنا، وستجد نفسك في مواجهة أعنف قوة في العالم.

وفي هذا السياق، يبدو أن فكرة أن “القوة هي الحل الوحيد” لم تعد مجرد فلسفة أو خطاب سياسي، بل أصبحت واقعاً تُثبت صحته الأحداث اليومية، فحتى في عصر العولمة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تبقى القوة العسكرية والاقتصادية العامل الحاسم في تحديد من يقود العالم، وأمريكا، أكثر من أي دولة أخرى، أثبتت أنها تفهم هذه القاعدة جيداً، وأنها لا تتردد في استخدامها.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق