القيم والأخلاق.. إلى أين يا أوروبا؟

تكلمت مع كثير من الاصدقاء والأقارب والمعارف الذين التقي بهم خلال إجازتي حاليا في أوروبا، والتي جلت خلالها في أربع دول، وانتهى بي المطاف أخيراً في لندن حيث أمكث الآن، وفي الواقع عند حديثي معهم وجدت الجميع في حالة من الذهول مما يحدث، فقد أصبحت المجتمعات الأوروبية وكأنها تعيش أزمة هوية حقيقية، تتساءل عن معنى القيم والأخلاق.

اللقاءات العديدة التي جمعتني بأصدقاء وزملاء وعامة الناس هنا، كشفت لي عن حيرة عميقة تجاه ما آلت إليه الأمور، والنقاشات التي دارت بيننا جميعها دارت حول سؤال محوري واحد: كيف وصلنا إلى هذه النقطة من التيه الأخلاقي؟ فقد تغيرت القيم ومنظور الناس للأخلاقيات، حتى أن ما كان غير مسموحاً به منذ زمن طويل أصبح اليوم مسموحاً والعكس الصحيح.

تبدّلت أشياء كثيرة، وسادت أمور ضد الفطرة ومبادئ الخلق مثل المثلية الجنسية، وقد أثار دهشتي التحوّل الجذري في نظرة الأوروبيين لهذا الموضوع، فما كان حتى عقدين من الزمن يعتبر انحرافاً أو خطيئة في أمريكا والغرب، أصبح اليوم حقاً يتباهى به الناس ويُدرس في المدارس ويُحتفل به في الشوارع، وكأنه الطريق المستقيم، وأنه من الخطأ وغير المرغوب أن يتزوج الرجل والمرأة ويكونا أسرة معاً، وكأن المثلية أصبحت ما يشبه الدين الجديد الذي لا يقبل النقاش.

تغيّرت نظرة أغلب الشباب الأوروبي لمفهوم الأسرة، فأغلبهم أصبح لا يرى معنى لأن تتكون الأسرة من رجل وامرأة كما تربينا وكما تمليه عليها الفطرة، وأصبحوا يرون هذا المفهوم “بالياً وتقليدياً”، والمفارقة هنا أن هذا الرأي لم يعد رأياً فردياً أو مجرد اتجاه يتخذه البعض، بل تحول إلى سياسة رسمية في بعض الدول، التي ألغت كلمة “الأب” و”الأم” من الوثائق الرسمية واستبدلتها بمصطلحات محايدة، أو التي جعلت هذا الموضوع أساساً يدرس للأطفال.

حتى أني قابلت محام معروف في بريطانيا من عائلة ذات أصول يهودية يعمل في مجال حقوق الإنسان منذ عقود، والرجل اعترف لي بأنه لم يعد يعرف ما هو الصح والخطأ سواء قانونياً وأخلاقياً، وأن القيم تغيّرت لدرجة أنه يشعر أحياناً أنه أصبح من الماضي وأن حقوق الإنسان تحولت من مبادئ سامية إلى مجرد أداة سياسية، مع الأسف هذا هو الواقع اليوم في تلك الدول، القيم ضاعت وأصبح القوي هو من يقرر ما هي الحقوق التي يجب الدفاع عنها وما هي القيم التي تسمى “حقوق إنسان”.

العديد من النقاشات والأحاديث نسمعها يومياً تدور بين الأوروبيين حول معيارية القيم، والجميع يتفق على أن أوروبا تعيش فراغاً أخلاقياً بعد أن تخلت عن الجذور الدينية دون بديل يضع الحدود والقيم للمجتمعات، والنتيجة هي مجتمعات تعاني من تناقضات كبيرة، تدافع عن حقوق الحيوان بينما تشرع عدة أمور تنتهك حقوق وكرامة الإنسان، تظهر أنها تحتفي بالتنوع الثقافي بينما تفرض قيوداً وتكرس كراهية ضد مجموعات تنتمي لأديان أو أعراق محددة مثل انتشار الإسلاموفوبيا وتزايد العنصرية العرقية، تدعو للتسامح لكنها لا تتسامح مع من يخالفها الرأي، وخير دليل على ذلك الحوادث التي نسمع عنها عن أساتذة ومعلمين يُطردون لمجرد اعتراضهم على بنود تخص جنس المرء والميول الجنسية.. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: أين حرية التعبير التي كانت تفخر بها أوروبا؟

الأكثر إثارة للقلق أن القيم في أوروبا اليوم لم تعد تستمد من المبادئ الأخلاقية الثابتة، بل من القوة والسلطة، ما يقرره السياسيون والإعلام والشركات الكبرى يصبح الصحيح والصواب بحكم الأمر الواقع، حتى أصبح الناس يفقدون هويتهم الدينية شيئا فشيئاً وأصبحوا مجرد متشربين لما يقال لهم، وتخلوا عن الثوابت المسيحية الحسنة التي كان يعرف بها المجتمع الأوروبي.

المشكلة بدأت حين أعطى الغرب الحرية أكبر من حجمها، ونقلها من قيمة إلى مرجعية، لأن الحرية حين تكون مرجعية فإنها تفتح الباب لكل الرغبات المجنونة، فحتى لو قرأت كل تعاريف ومذاهب الحرية، في النهاية ستجد أن أي تعريف للحرية لا يحسم نزاعاً ولا يرفع خلافاً، ما لم يرتبط بمرجعية تضبطه، والفخ الذي وقعت فيه أوروبا أنها لم تأخذ الحرية وتضعها ضمن مرجعية أخلاقية، بل جعلتها هي نفسها مرجعية، ولذلك يقف الغرب اليوم عاجزاً عن إيقاف الانحدار الأخلاقي المتسارع، فكلما ظهر ظاهرون بسلوك أخلاقي مشين تصدّت لهم الأغلبية بأن ذلك غير لائق أو غير أخلاقي، فيرد عليهم أولئك أن هذه حريتنا ويحق لنا أن نفعل ما نشاء.

فمن البديهي أن الناس تتوسع في رغباتها كلما حققت شيئاً منها، ولما كانت الرغبات بلا مرجعية أخلاقية تضبطها فإن النتيجة أن الرغبات نفسها تكون هي المرجعية، وهكذا لا تكون الحرية الليبرالية سوى وسيلة لتضخيم الرغبات وهيمنتها على الإنسان، وهو ما يفسّر الانحدار الأخلاقي المتسارع في الواقع الأوروبي المعاصر.

الأوروبيون سيدفعون ثمن هذا الشذوذ اقتصادياً، وذلك عبر انخفاض عدد القوى العاملة، فمن المعروف أن هناك علاقة طردية بين انخفاض معدلات المواليد وعدد السكان في سن العمل، فكلما انخفض عدد المواليد انخفض معه عدد القوة العاملة مستقبلاً، الذي بدوره يؤدي إلى تباطؤ النمو في العديد من الصناعات الرئيسية، ويقلل من القدرة التنافسية الاقتصادية لأوروبا، كما أن انخفاض معدلات المواليد والسكان يعني أيضاً عدداً أقل من المستهلكين مما يقلل من فرص تحقيق النمو الاقتصادي في السوق المحلي، وهو ما سيجعل تلك الدول ذات معدلات المواليد المنخفضة أكثر عرضة للصدمات الخارجية والصراعات الاقتصادية والسياسية.

من المؤسف أن نرى المجتمعات الأوروبية التي قادت العالم ذات يوم بالمبادئ والإنجازات، أصبحت اليوم عاجزة عن الإجابة على أسئلة أساسية بديهية: ما هو الصحيح؟ وما هو الخطأ؟ ما هو الطبيعي؟ وما هو غير الطبيعي؟ والأزمة ليست أوروبية فقط، بل هي أزمة الحضارة الغربية بأكملها التي وصلت إلى ذروة التحرر ففقدت بوصلة الأخلاق. أتمنى أن تستيقظ أوروبا قبل فوات الأوان، وأن تعود كما كانت منبراً للحضارة والتاريخ والعلم.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق