مرت قرون طويلة، ما يفوق الألف وخمس مئة سنة منذ عصر الجاهلية، تحضرت صحراء شبه الجزيرة العربية خلال هذه الفترة، لكن الجاهلية تسربت إلى محيطها العربي الأوسع في بلاد الشام ومصر والدول الكائنة في قلب المشرق العربي. صحيح أننا في القرن الحادي والعشرين، لكن لا أرى أي وجه من وجوه التقدم في هذه المناطق التي باتت تعيش نكسة حضارية تعيدها إلى عهد الجاهلية الأولى.
والمؤلم والمؤسف أن هذه العودة إلى التخلف تأتي في وقت تمتلك فيه أمتنا كل مقومات النهضة، لكنها تفتقر إلى الإرادة الحقيقية للوحدة والتقدم، في حين أن الأمم التي اتحدت في مناطق أخرى من العالم أصبحت الآن تتصارع على ريادة الفضاء والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، بينما نحن ما زلنا لم نخطو ولو خطوة واحدة نحو مسار التعاون والاتحاد، ولازال أكبر همنا القضاء على الطائفية وما شابه على عكس أغلب الأمم المتطورة التي تخطت هذه المراحل منذ عقود.
لو أمعنا النظر في واقعنا العربي اليوم، لوجدنا أن أعراض الجاهلية الجديدة تتجلى في عدة مظاهر خطيرة، وهي الأسباب الرئيسية لعودة الجاهلية، وأولها العصبية القبلية التي تحولت من ولاء للعشيرة إلى ولاءات طائفية ومذهبية مقيتة، وثانيها سيادة لغة القوة والغلبة بدل لغة الحوار والعقل، وثالثها انتشار الأمية الفكرية، فهناك دوماً فرق شاسع بين المتعلم والغير متعلم، وما يحمله غير المتعلم من عاطفة تحيزية عمياء للقبلية أو الرأسمالية، وللأسف نتج عن ذلك تحكم أميّ في بعض دولنا العربية، من قبل زعماء ينقصهم الكثير من العلم والثقافة، وهذا ما يحصل في لبنان وسوريا والعراق وحتى في أجزاء من الاردن وغيرها. وليس ذلك على مستوى الحكم فحسب، بل نجد حتى خريجي جامعات يؤمنون بأفكار جاهلية بحتة ويمارسون أبشع أشكال الطائفية السياسية، ومتعلمين يحملون شهادات عليا لكنهم ما زالوا أسرى الولاءات العشائرية.
جذور الأزمة تعود إلى مشاكل متعددة أولها هيمنة الزعامات التي تفتقر إلى الرؤية الحضارية وتستمد شرعيتها من العصبيات لا من الكفاءة، وتحول الرأسمالية إلى نظام استغلالي مقيت يزيد من الهوة بين الطبقات، وهذه العوامل مجتمعة إلى جانب عدة عوامل أخرى خلقت تربة خصبة لعودة القيم الجاهلية في ثوب جديد، ففي سوريا مثلاً نرى كيف تحول الصراع من مطالب إصلاحية لنمو الإنسان والوطن إلى حرب عصابات طائفية، وفي لبنان مازالت المحاصصة المذهبية مقدسة فوق الدستور.
لا يحتاج المرء إلى كثير من العناء ليرى أن بعض الدول العربية تعيش بالفعل في عصر الجاهلية، فرادى وأقواماً، ولك أن تشاهد بنفسك وضعنا اليوم بين أمم الأرض المختلفة، وإن اختلفت المظاهر والمعيشة، فالجاهلية ليست ملبساً أو مأكلاً أو مشرباً ومسكناً، بل هي الفكر أساساً، والعقلية التي ترفض الآخر لمجرد الاختلاف، وتقدس الماضي دون فهم للحاضر، وتخلط بين الدين والعصبية، الفارق بين تلك الدول وبين بقية العالم في الهوة الفكرية التي تفصل بين منطق التقدم ومنطق التخلف.
والنموذج الذي دائماً يثبت لنا نجاح سياسته هو النموذج الخليجي، فدول الخليج خطت خطوات حكيمة كبرى أثبتت من خلالها للجميع أنها تجاوزت كافة الإشكاليات الطائفية والمذهبية، بل وهي الآن تساعد جيرانها العرب على التغلب على شبح الطائفية لتعيد لهم العروبة الأشمل والأكبر التي لطالما كانت دول الخليج سبّاقة واول المنادين بها، في جميع المحافل والمناسبات، ولطالما علمتنا أن اعترافنا هو اعتراف واحد فقط وهو أن عروبتنا تطغى على كل شيء آخر، على الطائفية والمذهبية والتعددية في القبائل والأفكار والمذاهب، وأن التنوع هو ميزة تميزنا كبشر، وأكدت لنا مراراً وتكراراً بأن توحدنا تحت راية واحدة هو المنفذ الوحيد لتحقيق مصلحة الامة العربية الأجمع.
دول الخليج قدمت للعرب والعالم دليلاً عملياً على التقدم دون التخلي عن الثوابت، من خلال تحقيق التوازن بين الأصالة والحداثة، وبين الهوية العربية والانفتاح على العالم، وجعلت من الاستثمار في التعليم والعقول أساساً لمسيرة الازدهار والتقدم، إلى جانب بناء مؤسسات الدولة التي تكفل الحقوق، واعتماد سياسات حكيمة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
الخروج من نفق الجاهلية المظلم يتطلب عدة أمور من أهمها إصلاح التعليم ليكون أداة للتحرر الفكري لا للتلقين، وبناء أنظمة سياسية تقوم على الكفاءة لا على المحاصصة، وغرس وفهم وإعادة تعريف مفهوم العروبة ليكون جامعاً لا مفرقاً، ويضع مصلحة الأمة فوق كل الاعتبارات.
العروبة ليست مجرد انتماء جغرافي أو عرقي بل هي رابطة وجدانية وشعورية وإنسانية جامعة، متفاعلة مع محيطها، تذوب فيها كل الفروق، والقوة الحقيقية للعروبة هي عندما تتسع هويتها لتحتضن العرب من مختلف الاديان والمذاهب والتيارات الفكرية، فالعودة إلى عروبتنا هي الحل الوحيد الذي يجمع ولا يفرق، يبني ولايهدم. لو أدرك العرب أن عروبتهم ليست ضد التنوع، بل هي الإطار الذي يحفظ هذا التنوع ويغنيه، لوجدوا طريقهم الخروج من نفق الجاهلية الجديدة، فالعروبة الحقيقية هي التي ترفض أن تكون طائفية أو قبلية أو عنصرية، لأنها في جوهرها مشروع حضاري إنساني قبل أن تكون انتماء.
على كل الموجودين في هذه الدول التي تتجه إلى الجاهلية تحمل مسؤوليتهم التاريخية في مواجهة هذا الانحدار، فلا يكفي أن ننعي واقعنا، بل يجب أن نقدم البدائل العملية، القيادات السياسية مطالبة بمراجعة جادة لسياساتها، فالعالم من حولنا يتقدم بينما نحن نناقش قضايا تجاوزها التاريخ، الأمل لا يزال قائماً، لكنه يحتاج إلى شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وإرادة التغيير الحقيقية.
التاريخ يعلمنا أن الأمم تمر بأدوار قوة وضعف، وعودتنا إلى قيم الجاهلية ليست قدراً محتوماً علينا بل هي مرحلة يمكن تجاوزها إذا أدركنا أسباب المرض ووضعنا العلاج المناسب، كما يجب أن نتعلم من دروس الماضي أن الوحدة ضرورة وجودية والطريق الوحيد للبقاء والاستمرار، وأن العروبة التي نحتاجها اليوم هي تلك التي تجمعنا على قيم العدل والعلم والتسامح، لا تلك التي تفرقنا بالطائفية والتعصب، فالصحوة الحقيقية تبدأ عندما نضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار دون تفرقة.
