الطوائف تحطم الأوطان

تظل الطائفية أخطر الأسلحة الفتاكة التي تستهدف نسيج مجتمعاتنا العربية من الداخل، فهي ليست مجرد خلافات فكرية أو اختلافات في الممارسات الدينية، بل أداة مدمرة تحول المواطنين إلى أعداء، وتجعل من الأخوة غرباء، ومن الجيران خصوماً، والأخطر من ذلك كله أن هذا الداء لا يخدم إلا أعداء الأمة الذين يفرحون كلما رأوا شعباً ينقسم على نفسه، ووطناً يهدر طاقته في صراعات داخلية بدلاً من مواجهة التحديات الحقيقية.

الطائفية تحطم الوطن، والمواطنة، والمواطن، وطبعاً لا نحتاج إلى كثير من التحليل لنعلم أن هذا هو بالضبط ما تريده إسرائيل وكل أعداء العرب، وأنهم عموماً هم المستفيدون الأكبر من التقسيمات الطائفية في منطقتنا، فالدول التي تعاني من الانقسامات الداخلية تكون دائماً أضعف في مواجهة التحديات الخارجية، والتاريخ يعلمنا أن المستعمرين سواء البريطانيين أو الفرنسيين أو غيرهم استخدموا سياسة “فرق تسد” ببراعة في المنطقة، واليوم تستمر هذه السياسة، بأشكال جديدة، فعندما ينشغل المواطنون بالخصومات المذهبية، فإنهم بذلك يهدرون طاقات كان من الممكن أن تستثمر في البناء والتطوير، ويصبحون أسهل هدفاً للتدخلات الخارجية.

المواطنة الحقيقية تعني أن يكون انتماء الإنسان الأول والأخير لوطنه، دون أي اعتبارات أخرى، لكن الطائفية تقوم بعكس ذلك تماماً، وتدمر هذا المفهوم، فهي تجعل الانتماء المذهبي أو الطائفي فوق الانتماء الوطني، والنتيجة تكون مجتمعات ممزقة، وولاءات مشتتة، ووطنية هشة، فكيف يمكن لمجتمع أن يبني مستقبلاً وهو منقسم إلى دويلات طائفية داخل الدولة الواحدة؟ كيف يمكن تحقيق التنمية عندما تكون الوظائف والفرص على سبيل المثال مقسمة على أساس طائفي وليس على أساس الكفاءة؟

لا يقتصر ضرر الطائفية على الجانب الاجتماعي فحسب، بل يمتد ليشل الاقتصاد الوطني، فالدول التي تعاني من الانقسامات الطائفية تجد صعوبة كبيرة في جذب الاستثمارات الأجنبية، لأن المستثمرين يبحثون دائماً عن البيئات المستقرة، كما أن الطائفية تؤدي إلى هدر الموارد في صراعات داخلية بدلاً من استثمارها في مشاريع تنموية في التعليم والصحة.

لو نظرنا إلى الدول التي تمكنت من تجاوز الانقسامات الطائفية، لوجدنا أنها حققت قفزات تنموية كبيرة، ماليزيا على سبيل المثال، تمكنت من تخطي الخلافات الدينية والعرقية وجعلت هذا التنوع مصدر قوة بدلاً من أن يكون نقطة ضعف، أما الدول التي استسلمت للطائفية، فقد دفعت ثمناً باهظاً من مواردها، ودماء أبنائها، دون أن تحقق أي تقدم يذكر.

للأسف، العديد من الدول استوردت شكل الدولة الوطنية المدنية، وجاء في إعلاناتها ودساتيرها أن المواطنة وليس الدين أو المذهب هي أساس المجتمع، إلا أنها استوردت الشكل فقط، وظل حكامها والكثير من قواها المجتمعية والسياسية والإعلامية يجرون الدولة إلى زمن سابق على الدولة المدنية القائمة على أن المفاضلة تقوم على المواطنة.

تجارب سوريا ولبنان على سبيل المثال تقدم لنا مثالاً دقيقاً على كيف يمكن للطائفية أن تحول الدول إلى ساحات صراع مفتوحة، ونظم سياسية قائمة على المحاصصة الطائفية حوّلت الدولة إلى كيانات متنافسة بدل أن تكون مكونات متكاملة، وهو ما جعلها تدفع فاتورة مرتفعة، نتيجة ترسيخ البعض لولائهم لدول أخرى على حساب الهوية الوطنية. لو أدركت شعوب مثل شعوب هذه الدول وغيرها أن طائفيتهم هي أقوى هدية يقدمونها لأعدائهم، لاختاروا منذ زمن طريق الوحدة الوطنية طريقاً وحيداً للخلاص.

أعتقد أنه من أهم ما يجب أن تقوم به أي دولة لمعالجة الطائفية هو أن تتوقف عن توظيف المؤسسات الدينية في لعب أدوار سياسية تتجاوز مهام هذه المؤسسات، التي ينبغي أن ينصرف دورها إلى إنتاج خطابات دينية عصرية تنبذ الإقصاء والغلو الديني والكراهية الدينية، وتدفع باتجاه الاستنارة والاعتدال، وأن يكون هناك متابعة عما يصدر عن هذه المؤسسات من خطابات تكون متناقضة مع قيم المواطنة، أو تحرض على الكراهية الدينية.

أتمنى أن تحذو كل الدول حذو دول الخليج وأن تتخذها قدوة، وأن ترى كيف تقدم نموذجاً مهماً وملهماً في التعامل مع التنوع المذهبي والاجتماعي، وكيف استطاعت بقيادتها الحكيمة ورؤيتها الثاقبة التغلب على أي بذور للطائفية قبل أن تتفشى، ففي الخليج نرى المساجد بجوار المآتم، ونشاهد المسيحيين والهندوس يعيشون بسلام إلى جانب المسلمين، وهذا النموذج لم يأتِ صدفة بل هو نتاج رؤية استراتيجية راسخة لدى قادة دول الخليج تعتبر أن قوة الوطن تكمن في تلاحم أبنائه من كل المذاهب والشرائح والفئات والمكونات، وحفاظهم على مبادئ التعاضد والتآزر والتعاون كي يشكلوا جميعاً جبهة واحدة متراصة في مواجهة الفكر الطائفي الضال المنحرف ذو الأهداف الخبيثة.

لقد اختارت دول الخليج أن تكون الوحدة الوطنية فوق كل الاعتبارات، وأن يكون الولاء للوطن قبل أي انتماء آخر، وهذه التجربة تثبت للعالم أن التعايش ممكن عندما تكون هناك إرادة سياسية حقيقية، وقناعة مجتمعية راسخة بأن التمزق الطائفي لا يخدم إلا أعداء الأمة، دول الخليج لم تنجح فقط في تجاوز الانقسامات المحتملة، بل حولتها إلى سد منيع ضد أي محاولات لزعزعة الاستقرار، مما جعلها نموذجاً يستحق الدراسة والاقتداء به على مستوى المنطقة والعالم.

المواجهة الحقيقية للطائفية تبدأ من التعليم، فالمدارس والجامعات يجب أن تعلم الطلاب أن الوطن للجميع، وأن التنوع هو مصدر قوة وليس ضعف، والإعلام أيضاً عليه مسؤولية كبيرة في تعزيز قيم المواطنة ونبذ خطاب الكراهية، كما أن على القيادات الدينية أن تلعب دوراً إيجابياً في جمع الناس بدلاً من تفريقهم، والأهم من ذلك كله، أن يعي المواطنون أنهم عندما يقعون في فخ الطائفية، فإنهم يخدمون أعداءهم دون أن يدرون.

في النهاية، الوطن هو البيت الكبير الذي يجمعنا جميعاً، الطائفية هي ذلك السوس الذي ينخر في جدران هذا البيت حتى يهوي به على رؤوس الجميع، لذا علينا أن نختار إما أن نبقى أسرى للانقسامات المذهبية، وإما أن نرتقي إلى مستوى المسؤولية لنبني أوطاناً قوية قادرة على مواجهة التحديات، والبناء، فإما أن نتحد، وإما أن نكون ضحية لأعداء يتربصون بنا، الوطن يستحق منا أن نضع كل اعتباراتنا الثانوية جانباً، لنقدم له الولاء الذي يستحقه.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق