الجوع كافر

“لو كان الجوع رجلا لقتلته”..، هذه مقولة جميلة، لكن مع الأسف الجوع ليس رجلا، ولا يمكن قتله، بل هو من سينتصر عليك ويقتلك في نهاية المطاف، إنه قاتل بطيء يسحق معدة الإنسان، وشرايينه، وكرامته، قبل أن ينهي حياته، وهو الأقوى بين كل الأسلحة الفتاكة، خاصةً عندما يستخدم كتكتيك حربي.

وإذا نظرنا إلى الوراء، نرى أن التاريخ البشري حافل بالعديد من صور التجويع للمدنيين والأبرياء وموتهم نتيجة الجوع بأعداد كبيرة، لذلك دعا المجتمع الدولي عقب الحرب العالمية الثانية إلى ضرورة إجلاء المدنيين، أو علي الأقل أن يسمح لهم بمغادرة أماكن الاشتباك حمايةً لهم، عند اندلاع حرب أو صراع ما.

لا يستطيع الإنسان أن يصمد أمام الجوع الحقيقي، الألم يقتله كل لحظة وكل ساعة، والألم الذي يسببه الجوع ليس ألماً جسدياً فحسب، بل هو جرح نفسي عميق، كيف يمكن لإنسان أن يعيش وهو يرى طفله يتلوى من الجوع؟ كيف يمكن لمجتمع أن يدعي التحضر وهو يترك جاره يموت بسبب عدم قدرته على شراء رغيف خبز؟ الأسئلة كثيرة، لكن الإجابات شحيحة في عالمنا الذي أصبحت فيه الإنسانية شعارات فارغة، وترفاً لا يمتلكه الكثيرون.

لا أستطيع أن أفهم أين إنسانية هذا الإنسان الذي يجوّع الناس ويقتلهم، أو يقتلهم وهم يتزاحمون على أخذ رغيف يسد رمقهم، وبعد أن ينهي هذه الأعمال الشنيعة كيف سيستطيع أن يعيش مع نفسه ويكون صالحاً؟ كيف ينام؟ كيف يجمع أولاده حوله؟ كيف يجلس على مائدة عامرة بينما ضحاياه يموتون جوعاً؟ أنا إذا كنت أسير في طريق عام ورأيت رجلاً جائعاً أو يتظاهر بالجوع، يؤلمني مشهده كثيراً، ورغم أنني قد أشكك في جديته، إلا إنني لا أتردد إن كان في جيبي شيء من المال أن أعطيه إياه، وعندما أرى امرأة تمد يدها طلباً لقوت يومها، أو طفل يطلب ثمن لقمة العيش، لا أتردد في منحهم ما يكفي حاجتهم، لأني أؤمن أن الإنسانية يجب أن تسبق أي حساب آخر، وأن تجاهل الجوع جريمة، فما بالك بمن يجوّع الناس عن قصد!

الحقيقة المؤلمة هي أن هناك من يجوع الناس عمداً، يستخدم الجوع سلاحاً في حروبه، يحرم الأطفال من الطعام كوسيلة للضغط السياسي، وهؤلاء ليسوا مجرمين عاديين، بل هم قتلة للإنسانية بأكملها، ولقيمها ومبادئها، أي نفسية هذه التي تسمح لإنسان أن يكون بهذه الدرجة من القسوة؟

هذا النداء وهذا المقال ليس لنا ممن استطاع أن يقرأه، بل موجهاً لأعداء الإنسانية، ولن أقول أعدائنا، الذين لا يتأثرون بالحد الأدنى من انسانيتهم، فكيف أرقص وأغني وأنا قربي انسان ينزف، ويحتضر أمامي؟ مهما كانت كراهية إنسان لإنسان آخر، فلا دين في العالم يسمح بهذه الأعمال، أو يسمح بهذا الحد من القسوة وعدم الإنسانية.

لقد تعلمت منذ الصغر، ودرست في الجامعة فلسفة جميع الأديان لأكون مطلعاً أكثر، وأتقرب من الله تعالى أكثر وأكثر، فوجدتها جميعاً تصب في خندق واحد وهو خندق الإنسانية ومنفعة الإنسانية، كل الرسالات السماوية وغير السماوية جاءت لتحمي الإنسان وتكرّس قيم الرحمة والتسامح، فرسولنا الكريم هو رسول التسامح والأخلاق والعفو، وحتى المسيح قال ” إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر”، فكيف وصلنا إلى هذا الانحدار الأخلاقي؟ كيف أصبحنا نبرر الجرائم بحق الجوعى باسم السياسة أو الاقتصاد؟

أين هم زعماء العالم الذين يتبارون في كلامهم عن حقوق الإنسان، لكنهم يتجاهلون أبسط الحقوق، كالحق في الحياة، والحق في الطعام؟ أن تموت جوعاً في كوارث طبيعية خارجة عن إرادتنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن أن تموت لأنك تُحرم من الطعام والماء حتى تتضور جوعاً وتموت، فهذا يندى له جبين الإنسانية، وجريمة ضد الإنسانية جمعاء.

في غزة وغيرها في كل بقعة من هذا العالم، هناك من يموت جوعاً بسبب حروب لا ناقة له فيها ولا جمل، فأين ضمير العالم؟ أين المنظمات الدولية التي أنشئت لحماية الإنسان؟ للأسف، كثير منها أصبح أداة في يد القوى الكبرى، تتحرك حين تريد وتصمت حين يُطلب منها الصمت، دون وجود مرجعية للأخلاق، رغم أن الأخلاق هي أساس بقاء الأمم، وكما يقول الشاعر “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”، واليوم للأسف، نرى أمماً تتباهى بتقدمها المادي، بينما أخلاقها في الحضيض، تتفاخر بتطورها وتلهو وتمرح وتبني ناطحات السحاب الفاخرة بينما على بعد أمتار منها إنسان لا يجد ما يأكله.

منذ عصور قديمة، كانت هناك رغبة بدافع ديني أو فلسفي لجعل الحرب أكثر إنسانية، وقد وردت أفكار لحكماء وفلاسفة صينيين قدماء منذ القرن الرابع والخامس قبل الميلاد، تحث على احترام أعراف معينة في الحروب لمن لا يشاركون في الحرب، والسعي نحو حرب نبيلة المقاصد والأخلاق، وقد كان أهم دافع لهؤلاء الفلاسفة هو حماية حياة الإنسان، لأنها أثمن وأغلى شيء في هذه الحياة، بينما اليوم نرى دولاً لا تكتفي بقصف الأسواق والمستشفيات وقطع الغذاء عن المدنيين، بل تستهدف قتلهم أيضاً كاستراتيجية عسكرية.

والفكرة تظل ذاتها، من تعاليم كونفوشيوس في قرون ما قبل الميلاد التي دعت إلى حماية المدنيين، إلى قوانين جنيف الحديثة التي تحظر استهداف غير المقاتلين، وهي جعل الحرب أقل همجية، وتقليل الخسائر البشرية، وعدم توريط المدنيين الأبرياء في الحروب، لكن المفارقة هي أن هذه المحاولات لجعل الحروب أكثر نبلاً وأخلاقاً قد تحولت إلى غطاء أخلاقي زائف، يُستخدم لتبرير الوحشية نفسها.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن للحرب أن تكون “خلوقة” وصالحة أصلاً؟ التاريخ يجيب بأن كل حرب بغض النظر عن مبرراتها، تلد وحوشاً، وتترك وراءها جراحاً لا تندمل، فالأخلاق في الحرب أشبه بمحاولة إضاءة شمعة في إعصار، ضوءها الضعيف لا يغيّر من الظلام والضرر شيئاً.

رغم أن القانون الدولي الإنساني يجرم تجويع المدنيين، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اعتمد قراراً منذ 2018 يدين استخدام تجويع المدنيين كأسلوب للحرب، وكذلك منع وصول المواد الغذائية أو الإغاثات والإعانات التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة، إلا أن هذا السلاح لازال يُستخدم، ويعد موت كل شخص جوعاً وصمة عار على جبين الإنسانية. الحل يبدأ من الفرد، منا جميعاً دون استثناء، لنعلم أبناءنا الأخلاق والرحمة قبل العلوم، والإنسانية قبل السياسة والتاريخ، وأن نضع جميعاً الإنسانية قبل كل شيء وفي قمة الأولويات والتفكير.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق