12 يومًا من الحرب العشوائية والقصف المتبادل والدمار المرعب في كل من اسرائيل وإيران على حدٍ سواء، حتى هدأت هذه الحرب الهوجاء أخيرًا، تاركةً وراءها أسئلة كثيرة، وخسائر أكبر من المكاسب. كم كان مؤلمًا أن نشاهد بيوتًا تتحول إلى ركام، وأناسًا أبرياء يدفعون ثمن صراع لم يختاروه، لكن الأكثر إيلامًا هو إدراكنا أن هذه المواجهة لم تكن سوى حلقة أخرى في سلسلة الصراعات التي لن تنتهي إلا عندما يتوقف الجميع، دون استثناء، عن الاعتقاد بأن الحرب يمكن أن تحقق نصرًا حقيقيًا.
وأنا كعربي مسلم، لا أريد أن أرى إيران مستسلمة ضعيفة، ذليلة مكسورة، ولكن على إيران أن تأخذ مواقف أكثر إيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، وهذا موضوع أصبح واضحًا وأكيدًا، فكل دول الخليج وكثير من الدول الإسلامية أبدت تنديدًا واضحًا وصريحًا بالهجمات الإسرائيلية على إيران، وعلى إيران أن تستفيد من دروس الحرب، وأن تعمل لتعود دولة طبيعية في المنطقة، لا تهدد جيرانها.
الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن كلا الطرفين خرج من هذه الحرب مثقلاً بالخسائر، نعم، ربما يكون بعض القادة قد ألقوا بالخطابات النارية معلنين النصر، أو الصمود، ولكن أي عاقل يعرف أن إسرائيل، رغم قوتها العسكرية الهائلة، لم تتمكن من القضاء تمامًا على البرنامج النووي الإيراني، كما أنها لم تتمكن من صد جميع الصواريخ الإيرانية التي أحدث بعضها دمارًا هائلاً في اسرائيل.
بالمقابل فإن إيران، رغم أنها تمكنت من تدارك الضربة الأولى الموجعة والتقاط أنفاسها، إلا أنها لم تستطع حماية منشآتها العسكرية والنووية والحيوية، ونتيجة كل ذلك هو أن كلا الشعبين عانى بشكل لم يسبق له مثيل، لذلك لنتقِ الله ونعقل ونتوكل، ولنعلم أن هذه الحرب تألمت كل الأطراف فيها وتضررت، مهما كانت أبواق الإعلام في اسرائيل وإيران تدّعي النصر وتهتف «نحن انتصرنا» وتتفاخر بذلك، لأن الواقع هو أن لم ينتصر أي أحد.
في الواقع لا أستطيع أن أحدد تمامًا من هو الغالب أو المغلوب، فبرأيي الكل خاسر، وأكثرهم اسرائيل وإيران بالطبع، وقد قال الحكماء من الساسة منذ البداية بأن هذه حرب عبثية، غير مجدية، واتهم وقتها ترمب ماكرون بأنه مخبول وشنّ عليه هجوم لاذع، لكن على كل حال، هذا ليس وقتًا للشماتة، أو لإظهار العضلات، أو استخدام المزيد من القوة الغاشمة، إنما هو وقت السلام، والسعي لوقف المزيد من الصراعات التي لا تنفع.
هذا الوضع أثر علينا دون شك في الخليج بطريقة سلبية، لكن دول الخليج كعادتها أظهرت موقفًا متزنًا خلال هذه الأزمة، فمن جهة كان هناك إجماع على رفض العدوان الإسرائيلي على الجارة إيران، ومن جهة أخرى كان هناك وعي بأن الانخراط في هذا الصراع لجانب أي طرف لن يجلب سوى المزيد من الدمار للمنطقة، وهذا الموقف الحكيم أثبت مرة أخرى أن دول الخليج تتعلم من تاريخ العالم، ولا تتجه للعصبية العمياء وتجعلها تحرك القرارات، وإنما المصالح الوطنية العليا ورعاية شؤون المواطنين هي التي على أساسها تبنى القرارات.
ما تعلمناه من هذه المواجهة هو أن مهما كانت قوة اسرائيل، ومن يقف خلفها، فإنها لن تستطيع أن تصمد لفترة طويلة دون جر العالم إلى حرب عالمية تنهي العالم، وقد كان لافتًا الموقف الهادئ للصين وروسيا، الصين ببرودتها السياسية، وروسيا بصبرها المعهود بقيت فيما نعتقد على الحياد.
من المؤسف أن كلا البلدين لم يستفد من دروس التاريخ، فإسرائيل ما زالت تعتقد أن القوة العسكرية وحدها كفيلة بحمايتها، وإيران ما زالت تتصرف وكأنها تستطيع تحدي العالم بأسره، دون أن تدرك أن هذا التحدي يأتي على حساب شعبها أولاً، والحقيقة المرة هي أن كلا البلدين سيستمران في دفع ثمن هذا العناد، حتى يدركا أن المستقبل لا يُبنى بالصواريخ، بل بالتعاون والتفاهم والسلام.
آمل أن تخرج اسرائيل من هذه الحرب بدرس مفيد بأنها لن تستطيع أن تقضي على العالم العربي، وأن حلمها من الفرات إلى النيل هاجس لن يتحقق، إلا بحرب ينهي الجميع بما فيها اسرائيل نفسها، حتى أن المفاعلات النووية في إيران باعتقادي أنها تضررت جدًا لكنها لم تنتهِ، وإن قُتل 14 عالمًا في إيران سيولد ألف عالم جديد، وهو ما يؤكد لنا أن هذه الحرب كانت بلا جدوى، ولم تخلق أي انتصار أو تغيير.
الحمدلله على نعمة الخليج، الذي أثبت بعمق تفكيره وحكمته البالغة التي أدركت أبعاد هذه الخلافات التي أودت إلى حروب، وكان كشجرة النخيل، تميل إلى اليمين والشمال، دون أن تصطف تمامًا مع هذا الطرف أو ذاك، ولم يقبل أن يكون مرتعًا لتكبير أجيال الحرب مثل اسرائيل، ولا مرتعًا للكراهية والتفرقة مثل النظام الإيراني، بل كانت مرتعًا للتنمية ورفاهية الانسان، وهذا الموقف الخليجي الراسخ لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج رؤية استراتيجية تدرك أن المستقبل ينتمي لأولئك الذين يستثمرون في الإنسان، لا في السلاح. إنها رسالة خليجية واضحة إلى الجميع، وهي أن الطريق إلى القوة الحقيقية يمر عبر التنمية والاستقرار، وليس عبر الحروب والصراعات.
في النهاية، هذه الحرب لم تكن سوى جرس إنذار آخر للجميع، جرس يذكرنا بأن الحروب لم تعد مجدية، وأن التحديات الحقيقية كالفقر والتغير المناخي أصبحت تواجه العالم بأسره مما يوجب علينا أن نميل دومًا للسلام والتعاون، لأن مشاكلنا المشتركة لا يمكن حلها بالصواريخ والقنابل. آن الأوان لكي نتعلم من دروس الماضي، وأن ندرك أن قوتنا الحقيقية تكمن في قبولنا بالسلام كحلّ لأي نزاع، والنظر إلى المستقبل بعيون مفتوحة للعمل معاً لبناء غد أفضل لأبنائنا.
الحكمة تقتضي تجنب استفزاز أي دولة، والبحث عن أرضية مشتركة نصل فيها إلى السلام الشامل معًا بدلاً من إشعال نيران العداوات، ففي النهاية، الضحايا الحقيقيون هم الأبرياء الذين يدفعون ثمن صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. الحمد لله على السلامة، لنحمد الله على انتهاء هذه الجولة بسلام نسبي، ورحم الله من توفي من الأبرياء في جميع بقاع الأرض، والآن وقت مراجعة دروس هذه الحرب ونتائجها حتى نضمن عدم نشوبها مرة أخرى.
