يكثر الكلام هذه الأيام عن استحواذات واندماجات لخلق شركات ومؤسسات وكيانات تجارية أكبر، وطبعًا أنا أتفهم أهمية هذا التوجه، وخاصةً إذا كان الاندماج بين فرقاء أقوياء، تنضم قوتهم إلى بعضهم البعض، وهذا ما حصل في معظم البلدان التي بدأت مسيرة ووصلت إلى نجاحات كبيرة وأرادت أن تطور نفسها لتصبح ذات جدوى في الاقتصادات الكبرى إن كان على مستوى الخليج أو العالم العربي أو العالم بأجمعه.
وفي مشهد الأعمال سريع الخطى والمتطور اليوم، أصبحت العديد من الشركات في البحرين تستكشف باستمرار استراتيجيات للنمو والتوسع، وأحد الأساليب الفعالة للغاية التي اكتسبت قوة دفع في السنوات الأخيرة هي هذه العمليات المسماة بـ«الدمج والاستحواذ»، والتي نراها تحدث بشكل مستمر هذه الأيام، وتتجه هذه الشركات إلى هذا الحل نظرًا لأنه من خلال الجمع بين الموارد والخبرات والوصول إلى الأسواق، فإن عمليات الدمج والاستحواذ تمكن الشركات من تحقيق نمو متسارع وإطلاق العنان لأوجه التآزر المختلفة.
وأذكر من خلال متابعتي أمثلة أخرى من واقع مملكتنا من بينها استحواذ بيت التمويل الكويتي على البنك الأهلي، ثم استحواذ بنك السلام على بيت التمويل الكويتي – البحرين، واستحواذ شركة بنفت على شركة خليج البحرين للتكنولوجيا المالية، واستحواذ مجموعة سوليدرتي البحرين على شركة الهلال لايف وشركة الهلال تكافل التابعة لها، ولا نغفل أيضًا إعلان كل من بنك البحرين والكويت وبنك البحرين الوطني عزمها بدء مناقشات من أجل الاندماج.
هذه خطوات مباركة يجب دعمها وتسهيلها، ويجب أيضًا ألا يقتصر موضوع الاندماج على البنوك، بل أن يصبح الاندماج والاستحواذ ضرورة لتنظيم الصناعات، وحتى شركات الخدمات في مختلف القطاعات، يجب عليها التفكير بمصانع كبرى وشركات خدمات أكبر والدخول معها في عمليات اندماج لتصبح مكانتها أقوى، وأكثر فعالية وانتاجية، فعمليات الاندماج والاستحواذ تعتبر هذه الأيام بمنزلة أدوات لا تقدر بثمن للشركات التي تسعى إلى توسيع وجودها في السوق وتنويع عروضها.
كل ذلك بالطبع سيكون له انعكاسات إيجابية واضحة على الاقتصاد الوطني وتعزيز الاستثمارات المستدامة، ومن ثم تمهيد الطرق نحو بناء منظومة متكاملة من البرامج والابتكارات في مختلف القطاعات لمواجهة تحديات المستقبل، ففي عصر تشكل فيه التطورات التكنولوجية الصناعات، لا شك في أن عمليات الاندماج والاستحواذ يمكن أن توفر للشركات إمكانية الوصول الفوري إلى أحدث التقنيات والابتكارات.
ومن وجهة نظر الشركة المستحوذة، يمكن لعمليات الاستحواذ الناجحة أن تقدم فوائد عديدة، أولًا وأهم هذه الفوائد، أنها ستوفر فرصة للنمو السريع والتوسع في السوق، بدلًا من الاعتماد فقط على النمو العضوي، فإن الحصول على عمل تكميلي يسمح للشركة بالاستفادة من شرائح العملاء الجديدة أو المناطق الجغرافية أو خطوط الإنتاج، وميزة أخرى لعمليات الاستحواذ الناجحة هي إمكانية توفير التكاليف و«التآزر»، إذ إنه من خلال الجمع بين العمليات، يمكن للشركات التخلص من الوظائف المكررة، وتبسيط العمليات، وتحقيق وفورات الحجم، وهذا لا يقلل التكاليف فحسب، بل يحسن أيضًا الكفاءة التشغيلية.
وقد تضافرت العديد من العوامل العالمية والإقليمية وراء هذا النشاط الكبير في سوق الاستحواذ والاندماج، سواء على مستوى البحرين أو العالم، ومن أهم هذه العوامل هي زيادة العولمة الاقتصادية والتكنولوجية، وتنامي المنافسة العالمية، بالإضافة إلى ملاءمة القوانين والتشريعات الاقتصادية، والبيئة الاستثمارية المتطورة في البلاد، كما أدت الرؤية الاستراتيجية والثاقبة لحكومة مملكتنا الرشيدة في دعم الاقتصاد ككل وتعزيز دور القطاع الخاص إلى تشجيع المزيد من الاستثمارات والاندماجات في المملكة.
ومن الطبيعي أن مثل هذه الاندماجات أو الاستحواذات، ستؤثر بشكلٍ أو بآخر في مصالح بعض الموظفين، وسيعاد هيكلة هذه الكيانات التجارية في كيانات جديدة، وسيكون لها تأثير مؤقت كما أعتقد، لكن من الضروري أن تتعامل المؤسسات مع قضايا الموظفين الناجمة عن عمليات الاستحواذ والاندماج بشكل عادل، إذ يجب أن يتم تطبيق سياسات عادلة وشفافة للتعامل مع العمال المتأثرين، وضمان أن يحصلوا على حقوقهم الكاملة، وعندما تنمو هذه المؤسسات بآفاقها ستكون بحاجة إلى كفاءات أكبر وأكبر، وستنفتح أمام الجميع فرصًا جديدة للتوظيف والنمو والعمل.
فمثلًا عندما اندمجت البنوك الكبرى، خفّضت من بعض موظفي الدوائر ولكن زادت أعداد الموظفين في قسم خدمة العملاء، لأنهم بحاجة إلى أن يكونوا على اتصال دائم مع العميل، فالحجم الكبير لهذه الكيانات سيكون أكثر تعمقًا لخدمة العملاء. وفي النهاية، يجب أن تكون خدمة العميل دائمًا هي محور جميع أعمالنا، وأولوية قصوى لدى كل المؤسسات، وذلك يأتي بالتخصص والرعاية، وإدراك الشركة والموظف على حدٍ سواء لأهمية العميل في كل الأعمال.
ولكن لا نستغرب بالطبع أن بعضًا من القائمين على المؤسسات لن يرضوا بفكرة الاندماج، اعتقادًا منهم أن هذه العمليات ستؤثر على تقليص صلاحياتهم، لكن المسألة عكس ذلك تمامًا، فالاندماج سيجعل المؤسسات أقوى، ومستعدة لتوسعة أعمالها وعملائها وشركائها، وقبول فكرة الاندماج يتطلب بالتأكيد إرادة قوية ورؤية استراتيجية تتجاوز المصالح الشخصية وتركز على المصلحة العامة للمؤسسة، وللقطاع بأكمله، ولكن في الوقت ذاته، نحن لا نشجع بذلك على «المغامرة» بالمؤسسة والدخول في اتفاقيات اندماج واستحواذ دون علم بالنتائج، فمن حق صاحب المؤسسة أن يكون على دراية بالتوابع، فالموضوع ليس سهلًا، ولا تنطوي عمليات الاندماج على تكامل «الجوانب المالية والتشغيلية» فحسب، بل تتضمن أيضًا دمج ثقافتين مختلفتين للشركة، فعلى سبيل المثال، إذا كانت إحدى الشركات لديها ثقافة هرمية بينما تتبنى الأخرى نهجًا أكثر تعاونية، فسيكون إيجاد أرضية مشتركة أو تنفيذ ثقافة مزدوجة ضروريًا لتحقيق تكامل ناجح.
ويُعد البحث والتخطيط بمنزلة العمود الفقري لأي اندماج ناجح، ومن خلال إجراء العناية الواجبة المالية، وتقييم التوافق الثقافي، وتقييم أوجه التآزر في السوق، وتطوير استراتيجية تكامل شاملة، يمكن للشركات التنقل في مشهد الاندماج المعقد بكل ثقة، وإطلاق الإمكانات الكاملة للكيان المدمج، ونأمل أيضًا أن نرى في المستقبل القريب المصانع والشركات الصغيرة والمتوسطة تندمج مع بعضها البعض، بما يمكّنها من التكيف مع ديناميكيات السوق المتطورة، وتكوين كيانات تجارية أكبر وأكثر قدرة على المنافسة، والتي ستسهم بلا شك في دفع النمو المستقبلي وتشكيل الاقتصاد الوطني.
