ذهبت مرة مع صديق لي إلى حديقة حيوانات في لندن، ورأيته يتودد ويتعامل مع أسد هناك بطريقة وكأنه يعرف أن هذا الأسد لن يؤذيه، بل أصبح يلعب معه، والأسد يضرب يده مرة هنا ومرة هناك، وكأن صديقي في سيرك وليس أمام حيوان متوحش مفترس.
قلت له: كيف تجرؤ أن تفعل ذلك؟ أن تقترب إلى هذه المسافة من الأسد المتوحش ذي المخالب الطويلة والأنياب اللامعة والزئير المخيف؟ ألست خائفا حقا؟
ضحك وقال: هل تتصور أنني مجنون؟ أنا أعلم أن هذا الأسد لن يؤذيني لأنني كنت من بين طاقم تدريبه لفترة طويلة. صمت قليلا وأضاف: «عندما يكون خصمك في العلن صديقك في السر، لن يطالك أي مكروه ولن تكون معرضا لأي خطر».
في الواقع، هذا ما يحدث اليوم بين أمريكا وإيران، وما ردة الفعل الأمريكية البطيئة بل والخجولة على مقتل ثلاثة من جنودها في قاعدة قرب الحدود الأردنية السورية بطائرة مسيرة تابعة لجماعات مدعومة من إيران إلا فصل آخر من فصول مسرحية العداء بين الدولتين، تماما كما هي مسرحية «الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل».
أنا لا أقلل من القوة العسكرية الأمريكية، ومن قدرة الجيش الأمريكي، أقوى جيش في التاريخ، على ضرب أية أهداف يريد في أي وقت يرد، بل ومسح مدن ودول من على خريطة العالم وجعلها أثرا بعد عين، لكنه جيش تابع لسياسة البيت الأبيض ومؤتمر بأمره في نهاية المطاف، والساسة في البيت الأبيض لا يريدون حل صراعات الشرق الأوسط، ولا حتى أي صراع في العالم بما في ذلك الصراع الروسي الأوكراني، بل إدارة هذا الصراع وتحريك خيوط اللعبة وإضعاف جميع الأطراف بل وإنهاكهم لضمان ضعفهم وبالتالي خضوعهم أو تبعيتهم لواشنطن.
لكن لعل المراقب للعلاقات الأمريكية الإيرانية يدرك أن وراء الأكمة تاريخا طويلا من التفاهمات والتعاون، بل التحالف أحيانا بينهما، وكل منهما ينطلق بناء على مصالحه الإستراتيجية، وبحسب مراقبين أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، غامضة ومثيرة للتساؤلات، حيث يتبادل الطرفان التصريحات العدائية في الإعلام في الوقت الذي سعى فيه كل طرف للتهدئة مع الآخر.
إن قنوات التواصل المفتوحة بين واشنطن وطهران لم تنقطع حتى في أصعب الظروف التي عاشها البلدين، مثلا عند اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، ففي خضم مقارنة سياسته أثناء توليه الرئاسة بين 2016 و2020 مع الرئاسة الحالية تحت قيادة جو بايدن، كشف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن سر ربما لم يكشفه سابقاً عن قصة مقتل القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني، حيث قال إن النظام الإيراني استأذن منه قبل الرد على عملية الاغتيال لحفظ ماء وجهها وخشية من رد فعل أميركي أقوى، وفي الواقع أنا أصدق ترمب فيما قال.
ولا ننسى أن إيران والولايات المتحدة وقعتا علنا على اتفاق يسمح لطهران باستعادة أموالها المجمدة البالغة ست مليارات دولار، وقد تم تحويل هذه المبالغ بالفعل، وكل ذلك مقابل إطلاق سراح خمسة مواطنين أمريكيين محتجزين في إيران، رغم أن الولايات المتحدة أصرت على أن هذه المليارات الستة التي تم رفع الحظر عنها لا تشكل «شيكا على بياض» مقدما لإيران، وأن استخدامها سيتم تحت «رقابة صارمة»، هي موجهة «لأغراض إنسانية» فقط.
قبل ذلك كانت فضيحة الرئيس ريحان بتزويد إيران بصفقة الأسلحة التي عرفت بإيران كونترا أو إيران جيت عام 1985 خلال الحرب الإيرانية العراقية، وفي حرب الولايات المتحدة في أفغانستان، ساعدت طهران واشنطن، حيث وافقت في أكتوبر 2001 على المساهمة في إنقاذ أي قوات أمريكية تتعرض لمشاكل، وشاركت في الدعم العسكري لقوات التحالف الشمالي.
وباستعراض سريع، فإنه في عام 1941 ثبتت الولايات المتحدة حكم شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي كان يكنى بشرطي الخليج أو رجل أمريكا القوي، الذي انتهج سياسات الحفاظ على المصالح الأمريكية خلال سنوات حكمه، واتسمت العلاقات بين الطرفين في السابق بالكثير من الود، حيث تم إعلان العلاقات الدبلوماسية رسميا بينهما عام 1944، لكن في أعقاب الثورة الإسلامية وتنصيب آية الله الخُميني على رأس الدولة عام 1979 احتاج ملالي إيران إلى عدو خارجي لضمان ضبط إيقاع الداخل، فاعتبروا أن الولايات المتحدة هي الشيطان الأكبر كما رفع شعار الموت لأمريكا.
أنا أؤيد الرأي القائل إن ملف التعامل مع طهران بات محل جدل كبير في الأوساط الأمريكية، فبعد مرحلة من التصعيد في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، جاء بايدن ليعلن أنه سينتهج الدبلوماسية في التعامل مع الملف النووي، لكن خطوات الأخير اصطدمت بتعنت وعناد طهراني أدى لفشل سبع جولات متتالية من مباحثات إحياء الاتفاق النووي في فيينا، ما أثار تساؤلات حول الطريقة المثلى للتعامل مع إيران من وجهة النظر الأمريكية.
ومن منظور أمريكي أكاديمي، النظام الإيراني يحاول أن يقوض القيم الأمريكية، ويقف ضد حقوق الإنسان، ويقمع الأقليات على أساس الدين والعرق، بما يخالف قيم الولايات المتحدة، وهناك من يرى في أمريكا أن الشعب الإيراني، يحب أمريكا، ويتبنى القيم الأمريكية، ويتابع وسائل الإعلام الأمريكية والأفلام والبرامج، ويريد أن يعيش في الولايات المتحدة، ويتبنون القيم الأمريكية.
النظام الإيراني في الواقع أكثر الأنظمة تشددا في العالم، ربما لا يفوقه في ذلك إلا نظام كوريا الشمالية، لكنه يتحلى بقليل جدا من المرونة، خاصة عندما يشعر أن الداخل مهدد بالمظاهرات كتلك التي شهدناها بعد وفاة الناشطة الإيرانية مهسا أميني، ولأن الخنق بسبب العقوبات الاقتصادية أصبح قويا للغاية، لذلك يلجأ النظام إلى تخفيف التوترات مع الخارج، خاصة عندما تضعف قدرته على تحمل البقاء في عزلة مع الخارج بالوقت الذي تواجه فيه زعزعة للاستقرار من الداخل.
ويجب ألا أن ننسى نحن العرب أننا أمام نظام إيراني يسعى لفرض نوع من العقيدة والمذهبية على العالم العربي والإسلامي تتحدث عن «مساندة المستضعفين في الأرض»، والنظام الإيراني، يسير على عقيدة واحدة تتمثل في بناء جيوش عابرة للقارات، واستخدام المذهبية والطائفية لنشر معتقداتهم وأفكارهم في الدول، في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، ونشر الفوضى في هذه الدول من خلال إثارة الفتن والاقتتال الداخلي، وأن نخلص جميعا إلى نتيجة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة لن تؤذي إيران، تماما كما أن الأسد في حديقة الحيوانات لن يؤذي صديقي.
