لا أستطيع أن أفهم

أستغرب كيف أن مفكرين ومثقفين يهودًا، من بينهم مخترعون وموسيقيون ومصرفيون وفيزيائيون وسياسيون كبار، يؤمنون بأن الله عز وجل قد وعد بني إسرائيل بأن تكون أرضهم «من الفرات إلى النيل»؟! إذ إن العقيدة اليهودية، أو العقيدة الصهيونية، أو عقيدة إسرائيل الكبرى، تنطلق من تفسير توراتي يزعم أن حدود الدولة الإسرائيلية تمتد من نهر النيل فى مصر إلى نهر الفرات فى سوريا والعراق.

وقد وضحت معالم هذا المخطط مبكرًا، منذ أن تحدث عن المشروع الإسرائيلي مؤسس الصهيونية العالمية «تيودور هرتزل» عام 1904، وأعلن صراحةً أن حدود دولة إسرائيل تمتد من «نهر مصر إلى الفرات»، وهو ما ردده صراحةً أيضا الحاخام فيشمان عام 1947 فى شهادته للجنة التحقيق الخاصة للأمم المتحدة، وظلت الأمور على هذا النحو حتى عام 2014، عندما تداول نشطاء إسرائيليون على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك خريطة وصفوها بـ«مملكة إسرائيل الكبرى»، وتضم الخريطة مصر وفلسطين والأردن وسوريا ولبنان وجزءًا من السعودية والعراق.

وعندما ندرك أن لا دين واحد سيحكم العالم ولا عرق واحد سيسود، تصبح الحقيقة الواجبة أنَّ التعايش وتوقف الصهاينة عن قصف الأبرياء وخوض الحروب لأهداف خبيثة هو السبيل الوحيد لبناء جسور السلام وإحلال العدل في المنطقة، فالمخطط الإسرائيلي في كل الأحوال يستبعد وجود دولة فلسطينية، ذلك أن بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء يصر على أن تكون أرض فلسطين التاريخية وطنًا قوميًا لليهود، انطلاقًا من وعد بلفور، كما أن الحكومات الإسرائيلية المتتالية أثبتت منذ اتفاق أسلو عام 1993 أنها لا تريد إعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، من خلال مسار سياسي تفاوضي سلمي، بل تريد مواصلة سياساتها الاستيطانية والقمعية تجاه الشعب الفلسطيني تحت أي ظروف، وهو ما يدعو إلى مطلق الإدانة.

والدليل على ذلك هو ما يجري حاليًا في غزة من إزهاق للأرواح البريئة وتهجير للساكنين وسفك لدماء الأطفال، دون أي مبرر يجيز التطهير العرقي بحق مليوني فلسطيني في غزة، وقد أصبحت رغبة إسرائيل واضحة منذ بداية الحرب الحالية على غزة خاصةً إثر عرض بنيامين نتنياهو للخريطة أمام الأمم المتحدة والتي تبين بوضوح إلغاء قطاعي غزة والضفة، فنتنياهو لا يكترث إطلاقًا بما فيه خيرُ الشعب الفلسطيني الذي يرتكب جيشه منذ أكثر من 100 يوم مجازر بحقه، بل إن ما يريده هو أن تفتح مصر أبوابها كي يتسنّى لإسرائيل إغلاقها بشكل دائم بمجرّد خروج الفلسطينيين من ديارهم، فهذا ما حصل في العام 1948، وأحمقٌ من يعتقد أنه لا يمكن أن يحدث مجدّدًا.

وحتى وإن اعتبرنا أن إسرائيل باستطاعتها أن تجرف وتحتل أراضي الدول العربية، فلن يكون بوسعها أن تقتل دينهم، ولا أن تحطّم احتوائهم العربي، فالإيمان العميق والهوية الثقافية تتجذر في قلوب العرب وتعزّز صمودهم، ناهيك عن أنه لا يمكن الترويج لفكرة التطبيع مع إسرائيل على نطاق واسع بين الشعوب العربية دون وجود عملية سياسية جدية واتفاق سلام يفضي إلى حل الدولتين، خاصة وإن إدانات قتل الفلسطينيين وتدمير قطاع غزة بشكل ممنهج أصبح أمر مستنكر في كثير من دول العالم، وليس العرب فقط.

حتى لو تحققت النبوءة وحكم اليهود الأراضي من الفرات إلى النيل، بل حتى إن حكموا أمريكا وأوروبا وآسيا وأفريقيا والعالم، فإن هذا سيكون خطرًا عليهم بالدرجة الأولى قبل أن يكون خطرًا على غيرهم، لأن توسعهم يعني حتمًا ذوبانهم.

الشعوب ستظل دومًا مختلفة ومتنوعة، وهذا هو جمالها وثروتها الحقيقية، فالتنوع الثقافي والتعددية الدينية تُضفي على العالم نسيمًا من التعايش والسلام، فتزدهر المجتمعات بتباينها وتعايشها المثمر، وهذا هو الفكر الذي تنادي به البحرين وجميع دول مجلس التعاون الخليجي، والذي يعبِّر عن رؤية سامية ورصينة تؤكد على أهمية التعايش واحترام الاختلافات بين الشعوب، ويؤكد على أن التسامح والتفاهم يعزِّزان السلام والاستقرار، ويمهِّدان الطريق لتحقيق التقدم والازدهار المشترك.

ثم إذا كانت إرادة الله – كما يدعي ويؤمن كثير من اليهود – تقضي بأن اليهود، أو شعب الله المختار، سيحكمون من الفرات إلى الني، فلماذا يتدخلون إذًا في تنفيذ إرادته عز وجل ويقومون ببناء جيوش وقتل الناس لإقناع العالم بأن تلك هي أراضيهم؟ أليس من المفترض أن هذا عمل الله وحده؟ لكن الشعور بالاستعلاء والاستكبار على جميع الخلق داء عضال ومزمن عند بعض اليهود، ذكره القرآن الكريم عنهم في آيات كثيرة، وتزخر به نصوص كتبهم المقدسة لديهم.

الله سبحانه ليس له شعب مختار، ولكن هذه الفرية من تدليسهم، وإن إقامة دولة يهودية خالصة بمفهومهم هي بؤرة لمحاربة الدين الذي يضم اليهودية بالتوراة والنصرانية بالإنجيل ثم القرآن الكريم، وإن الحركة الصهيونية حركة عنصرية عدوانية كما وصفتها الأمم المتحدة عام 1975 قبل أن تتمكن واشنطن من قلب المسألة. ولم يخلق رب العالمين أحدًا لكي يميزه بذاته على سائر خلقه إلا الرسل والأنبياء، ثم أنه سبحانه لا يوزع الأراضي على بعض خلقه.

فكيف يكون اليهود شعب الله المختار كما يدّعون ويزعمون وهم لم يهنؤوا بعيش طيب منذ العصور القديمة؟ حيث كانوا تائهين في الأرض منبوذين، منذ أيام الفراعنة والآشوريون والكنعانيون والبابليون والرومان، وتم تشريدهم في بقاع الأرض منذ آلاف السنين حتى تمكنوا بمساعدة الإنجليز من احتلال فلسطين في عام 1948م، لتكون لهم دولة يجتمع شتات اليهود فيها، ونتج عن ذلك صراعات دامية ومواجهات عنيفة بين اليهود المعتدين والفلسطينيين أصحاب الأرض.

لم يكن الشعب الفلسطيني يبذل كل تلك الدماء الزكية والأرواح المباركة طيلة العقود الماضية وحتى الآن ليرضى في نهاية الأمر بـ «وطن بديل»، يطمح سماسرة بيع الأوطان لدفعه دفعا للقبول به، لا سيناء ولا غيرها من بقاع الأرض يرضى الفلسطيني عن وطنه بديلًا، تلك من المسلّمات التي لا خلاف عليها بين سائر أبناء الشعب الذي يخوض معركة خلاصه منذ زمن طويل. هذا هو المنطق والحق، وليس وعود إلهية زائفة بأن اليهود أحباب الله وأن على الجميع أن يخضع لهم.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق