أثبتت الأحداث الدامية التي شهدتها الساحة الفلسطينية منذ السابع من شهر أكتوبر الجاري وحتى الآن، وللمرة الألف، أننا نحن العرب ليس لدينا من سند سوى أنفسنا، وأن اعتمادنا على ذواتنا وعلى مواردنا هو السند الأكبر للدفاع عن حقوقنا، وضمان استقلاليتنا، واحترام الآخرين لنا.
أثبتت هذه الأحداث أنه لا يجب أن نسمح للآخرين تصفية حساباتهم على أرضنا. لا يجب أن نسمح لإيران أن تقاتل إسرائيل عبر وكلائها مثل حماس وحزب الله على أرضنا تحقيقًا لمصالحها أو تنفيذيا لأيديولوجيتها، وأن يتم قصف أراضٍ عربية في لبنان وسوريا؛ لأن وكلاء إيران أيضا اتخذوا من تلك الأراضي مرتعا لهم.
فقد بات واضحًا أن هجوم حماس على إسرائيل جرى بإيعاز أو بتنسيق وبدعم إيراني، وها هو وزير خارجية إيران يتكلم ويفاوض نيابة عن حماس، ويقول صراحة إن القوى التابعة لإيران في غزة وفي سوريا ولبنان ستقصف إسرائيل بلا هوادة، أما إسرائيل فتقصف غزة منذ أكثر منذ نحو عشرين يومًا بلا هوادة، والدم العربي يسيل هنا وهناك، ولا أحد يكترث به.
وأنا بصراحة لا أستطيع أن أفهم كيف نسمح نحن كعرب أن يستخدم الآخرون أرضنا في قتالهم، ووسيلة لتصفية حسابات خارجية لا علاقة لنا بها لا من قريب ولا من بعيد، وأن يستخدم أبنائنا وقودًا لتلك التصفيات، خاصة وأن كل مراقب للأوضاع ومطلع على التاريخ القريب يدرك أن إيران لن تدخل حربًا مباشرة مع إسرائيل، وأن تصريحاتها الحالية بشأن ضرورة وقف القصف الإسرائيلي لقطاع غزة ليست إلا ظاهرة صوتية.
لا أبالغ إذا قلت أن حالنا نحن العرب يشبه حال الأوكرانيين، فقد دفعتهم أمريكا والغرب إلى مواجهة روسيا، دون أن ينتصروا عليها، أو ينهزموا، وإنما – وكعادة أمريكيا دائمًا – تترك الجميع يتحارب حتى ينزف ويستنزف، ثم تحصد الثمار بعد أن ينهك الجميع. ربما تعلمت ذلك الدرس من الحرب العالمية الثانية، ولا زالت تطبقه حتى الآن.
والمتابع للإعلام الغربي يرى أنه يقوم حاليًا بالربط بين الحرب الراهنة في الأراضي المحتلة وبين الحرب في أوكرانيا؛ حيث يتم تصوير العدوان الإسرائيلي على غزة على أنه جزء من الصراع بين «قوى الخير» المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الديمقراطية، و«قوى الشر» المتمثلة في روسيا والصين وإيران وحزب الله وحماس، ولذلك يصبح – حسب هذه الرواية الغربية – دعم إسرائيل وأوكرانيا في حروبهم الراهنة جزءاً من معركة الغرب ضد القوى المعادية له حول العالم.
والواقع أن أحداث غزة الأخيرة أعادت للموقف العربي شيئًا من وحدته، فقد كشفت تقارير صحفية أمريكية، عن صدمة أمريكية من موقف عربي حاسم، بشأن فلسطين والعدوان الإسرائيلي على غزة، وذكرت أن وزير الخارجية الأمريكي «بلينكن» أجرى مشاورات صعبة ومعقدة خلال الفترة الأخيرة مع عدد من القادة العرب، وأنه كان وقع موقفًا عربيًا يدين عملية «طوفان الأقصى» بأقصى العبارات، لكنه لم يحظ بمثل تلك المواقف، بل إن القادة العرب أعربوا له عن رفض سياسة تهجير الفلسطينيين وإيقاف عملية إبادة المدنيين وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة مقابل السماح بخروج حاملي الجوازات الأجنبية.
وربما يكون الموقف العربي الجاد، إضافة إلى التحرك الروسي والصيني، دفع الرئيس بايدن إلى مراجعة موقف واشنطن من تشجيع إسرائيل على اقتحام غزة، خاصة وأن الولايات المتحدة لها مصالح أيضا مع الدول العربية وليس مع إسرائيل فقط.
ولا بد هنا من التأكيد على أهمية الموقف الخليجي من القضية الفلسطينية، فقد شغلت هذه القضية حيزًا مهمًا ومستمرًا من السياسة الخليجية، على مدار عقود، وكان لدول الخليج، متفرقة ومجتمعة، مواقف مشهودة لنصرتها ودعمها في وجه دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتعيد الأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة قطاع غزة، إضافة إلى ما يجري في القدس المحتلة وسياسات التهجير والاستيطان والتعدي الإسرائيلية، التذكير بأهمية القضية الفلسطينية لدى الشعوب العربية والمسلمة، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي.
ولا ننسى أنه في العام 2002 أطلق العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، بالقمة العربية في العاصمة اللبنانية بيروت، مبادرة للسلام تهدف لإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967 وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع «إسرائيل»، وقد نالت هذه المبادرة تأييدًا عربيًا من مختلف الأطراف، لكن إسرائيل عطلتها.
لقد كان السؤال الأكثر ترددًا في الغرب بعد هجمات 11 سبتمبر التي جميع من قام بها كانوا من العرب، هو «لماذا يكرهوننا؟»، والغريب أن الولايات المتحدة والغرب يجب أن يعرفوا الجواب بأنفسهم، فعندما يتبعون سياسة الكيل بمكيالين ويتحيّزون إلى طرف على حساب طرف آخر، عليهم أن يتوقعوا ردّات فعل عنيفة ضدهم.
وفي الغرب ذاته، كانت نسبة التعاطف مع القضية الفلسطينية في تزايد، خاصة في أوساط الشباب والمهاجرين والقوى الليبرالية والتقدمية، ورصدت استطلاعات الرأي تلك بشكل واضح الفجوة المتزايدة بين مواقف الأجيال الأكبر والأجيال الأصغر تجاه القضية الفلسطينية، لكن استطلاعات الرأي التي أُجريت منذ هجوم حماس أظهرت أن الأمريكيين في الغالب مؤيدون لإجراءات إسرائيل.
أعتقد أنه لا ضير من أن نتعلم من اليهود أنفسهم، وندرس ما الذي يحفزهم ويدفعهم للتميز في المجتمعات التي يعيشون فيها، وكيف يسيطرون على صناعة المال والأعمال والسينما والإعلام وغيرها، ثم يجيرون كل ذلك لخدمة أمتهم، التي هي في الأساس أمة مزعومة بعد اخترعوا لأنفسهم مرجعيات استندوا عليها في تجمعهم، مثل الوعود الربانية بأرض فلسطين، والهولوكوست الذي بالغوا كثيرا فيه واستجروا عطف العالم.
نحن لا نريد أن نرمي اليهود في البحر كما يدعون، لكن ما من عاقل إلا ويرى رغبة إسرائيلية وصهيونية جامحة في إبادة الفلسطينيين، وربما المصريين والسوريين واللبنانيين أيضا، حتى تفرغ لهم هذه المنطقة من العالم تماما، من الفرات إلى النيل.
لهذا لا يجب أيضًا أن نستكين ونخلد إلى الراحة فيما هم يخططون للتوسع والسيطرة على مقدراتنا بالقوة الخشنة أحيانًا، والناعمة أحيانا أخرى، وإنما يجب أن نكون أكفاء لهم، نطبع معهم، ونصالحهم، لكن من منطلق المصلحة العربية الواحدة والمصير العربي المشترك.
