لنعالج المرض لا العرض

في الواقع أنا لا ألوم كل من شارك ويشارك في مقاطعة بضائع وخدمات الشركات العالمية التي أظهرت دعما لإسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر الجاري التي قامت بها حماس ثم ردة الفعل الإسرائيلية التي تجاوزت حدود الدفاع النفس وتحولت إلى فظائع ضد الإنسانية ومجازر ترتكب بحق أخوتنا الفلسطينيين في قطاع غزة.

وأنا أتفهم أن كل إنسان لديه شيء من الإنسانية في أي بقعة من بقاع هذا العالم يتألم بكل جوارحه عندما يرى الفلسطينيين العزل، خاصة النساء والشيوخ والأطفال، وقد هاموا على وجوههم في الأرض لا يعرفون مكانًا آمنًا يلجؤون إليه في بقعة أرض ضيقة محاصرة ضاقت بهم، فيما الطيران الإسرائيلي حول أجزاء كبيرة منها إلى ركام، وتركهم جوعى في العراء أو جثثا تنتظر من يكرمها بالدفن.

لكن أوجه التعبير عن هذه المشاعر الإنسانية يجب أن تكون عقلانية أكثر منها عاطفية، فليس الحل في المقاطعة، ولن يكون في ذلك أبدًا، تمامًا كما يحدث عندما تقاطع جارك في الحي أو زميلك في العمل، كلاهما مفروض عليك شئت أم أبيت، وربما تضرك المقاطعة أكثر ما تضرهم.

ثم إن المقاطعة غالبًا ما تكون شعبوية كثر منها مدروسة، فربما تتم مقاطعة شركة تدعم إسرائيل علانية، لكن ما الفائدة من مقاطعة فروع لشركة عالمية يملكها أفراد مساهمون وليس شخص واحد أو مجموعة أشخاص، ويملك فروعها في الدول حول العالم شركات محلية بأسماء محلية، وتوظف من جنسيات تلك الدول، وترتبط بجملة من شركات التوريد المحلية أيضا؟

ثم هل المقاطعة ممكنة مع شركات مثل بوينغ أو إيراباص؟ مع جوجل ومايكروسوفت؟ مع جامعات بريطانيا وأستراليا وكندا؟ مع نظام سويفت البنكي الذي تشغله الولايات المتحدة؟. إن الابتعاد عن هذه الشركات والجهات يعني الابتعاد عن الحياة العصرية، عن التقدم والتقنية، عن لغة العصر، والعودة إلى العصور الوسطى، وزيادة حجم الفجوة بيننا وبينهم.

بل نحن أحوج ما يكون إلى أن نستفيد من تلك التقنيات والاختراعات حتى نستطيع أن نكون أقوى، وأكثر علمًا وتقدمًا، وقادرين على مقارعة أعدائنا بإمكانات أكبر، والدخول في شراكات مع الآخرين من منطلق القوة والندية وليس الضعف والتبعية، علينا أن نستفيد منهم حتى نكافئهم بل نتفوق عليهم، تمامًا كما يفعل لاعب الكارتيه المحترف الذي لا يمتص قوة اندفاع الخصم فقط، بل يستفيد من قوة الخصم في تحويلها ضد الخصم ذاته.

لقد فعلها اليهود من قبل ولا زالوا يفعلونها حتى اليوم، فهم يستفيدون من وجودهم في المجتمعات الغربية المتقدمة، ويستخدمونها كرافعة تصل بهم إلى أعلى المراكز في عالم السياسة والدبلوماسية والمال والأعمال والإعلام وغيرها، ثم يجيرون كل ذلك لخدمة مصالحهم الضيقة في تلك الدول، أو خدمة لإسرائيل.

دعونا ننظر إلى السياسية الحكيمة الوازنة العاقلة الراسخة لزعماء دول الخليج العربي، والذين يستندون إلى مبادرة السلام العربية، وحل الدولتين، لا أقل من ذلك أبدًا. وحتى إسرائيل ذاتها يجب أن تدرك أن حل الدولتين مفيد لها أيضًا، خاصة وأن الأحداث أظهرت أنه لا يمكن أن تضمن أمنها لا بطائرات الـF35 ولا بالقبة الحديدة، وإنما بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة كاملة.

زعماؤنا في الخليج العربي لا ينقادون خلف العاطفة العمياء كما كان يفعل الغوغائيون أمثال القذافي وعلي عبدالله صالح وصدام حسين، والذين استنزفوا مقدرات أوطانهم في شراء أسلحة حتى بدلا من الخبز، ثم صدأت هذه الأسلحة في مخازنها، أو استعملوها ضد شعوبهم نفسها، ولم يطلقوا طلقة واحدة منها على إسرائيل.

لقد قرأت في مكان ما عبارة: «هل قتلت فلسطينيا اليوم؟» يبدو التساؤل مخيفا، وقد وضع على لوحة إعلانية في إحدى الدول العربية، والغرض من السؤال ليس استفهاميا بطبيعة الحال وإنما استنكاريا، متبوعا بوسم «مقاطعون»، مرفقا بصور أطفال جرى انتشار مقاطع فيديو أو صور قاسية لهم من غزة.

وفي بعض الحالات تطورت المقاطعة إلى شغب واعتداء على مقار الشركات التي تحمل علامات تجارية أمريكية مثلا، كما حدث في مصر ولبنان وتركيا وغيرها، وأسفر ذلك عن تحطيم النوافذ تلفيات، كما أسقط بعضهم العلامة التجارية للمكان وحطموها على الأرض، وبعضهم تناول صورا معها في احتفاء بما حدث، في مشهد اعتبره كثيرون خارجًا عن السياق لمفهوم المقاطعة وتخطاها إلى الاعتداء.

لا شك أن دعوات المقاطعة لمنتجات شركات داعمة لإسرائيل تجري في إطار عاطفة شعبية متضامنة مع الفلسطينيين لممارسة ضغط شعبي على اقتصادات دول ممولة للحرب وشجبا للإبادة ضد المدنيين والأبرياء، لكن بمراجعة محطات تاريخية عدة لحملات المقاطعة الشعبية، وحجم تأثيرها في مجريات التطورات والقرارات السياسية الكبرى، فإنها تكون محدودة التأثير السياسي والاقتصادي، لكنها توسع إطار تأثيرها المعنوي والإعلامي والاجتماعي.

وللتذكر، فإن للمقاطعة تاريخ طويل في عالمنا العربي، بعض أسبابها سياسية وكثيرها دينية، كان آخرها قبل الصراع الأخير في غزة ما دعت إليه مؤسسات لمقاطعة المنتجات السويدية والدنماركية على خلفية حرق متطرف أخرق للمصحف الشريف؟

فالمقاطعة تاريخيًا لم تنجح في تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية لأسباب عدة، منها عدم كونها شاملة موسعة تشمل أسواقا كبرى وعدم الالتزام الجماعي الحاسم بها، كما لم تتمكن من تغيير مسار الأحداث السياسية والقرارات الكبرى ما لم تكن مقاطعة واسعة غير محصورة بسوق محددة، وإلا فالخسائر ستظل قليلة لا أثر لها لتغيير مجريات الأحداث والتأثير في القرارات السياسية.

أسأل الله تعالى أن يساند أشقاءنا الفلسطينيين، وأن يخفف عنهم ما هم فيه، وأن يقدرنا على مساعدتهم أكثر، وأن ينتهي هذا الكابوس قريبا، وأن يدرك الجميع، وأولهم إسرائيل، أن كلفة السلام مهما ارتفعت هي أقل بكثر من كلفة الحرب والدماء.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق