القوي من يصنع السلام

مرّت منذ أيام قليلة الذكرى الخمسين لحرب 6 أكتوبر، والتي انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين طرفي الصراع الأساسيين، مصر وإسرائيل، بعد مفاوضات طويلة وشاقة، استعادت مصر بنهايتها أرضها المحتلة، لكنها تعرضت لمقاطعة الدول العربية، حتى أن تلك الدول اتفقت على نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس.


ربما لم يكن سلام مصر وإسرائيل كاملاً وناجزا، ولم يضع نهاية للحروب في المنطقة، لكنه كان في الوقت ذاته سلام شجعان، سلام قام على تكافؤ القوى بعد الحرب، وواقع جديد خلقه عبور الجيش المصري للقناة وانتشار خمس فرق مصرية على ضفتها الشرقية، دون أن ننسى أن قوات عسكرية إسرائيلية عبرت إلى الضفة الغربية للقناة فيما يعرف بـ«الثغرة» أو الدفرسوار، وباتت على بعد 101 كلم من القاهرة.
أعتقد أن الزعيم العربي البراغماتي المناور الثعلب ذا الرؤية الثاقبة كان أنور السادات، أو كما يسمونه: بطل الحرب والسلام، حتى أن زيارته الشهيرة لإسرائيل وخطابه في الكنيست الإسرائيلي لا زال يتردد صداه في الأذهان، عندما زارهم منتصرًا لا مستسلمًا، وأعلمهم منذ ذلك الوقت أن طريق السلام أمامهم واضح: إرجاع الحقوق مقابل الحصول على السلام.
هل امتلك الراحل السادات رؤية للسلام لم ندركها إلا بعد سنوات وسنوات؟ هل كنا على حق بالتمسك بخيار الحرب والمقاومة والجهاد وما إلى ذلك من المسميات؟ والكلام موجه للإسرائيليين أيضا: لماذا لا تمنحون العرب والفلسطينيين تحديدًا السلام عن قناعة؟ لماذا تمنحوهم فرصة العيش بأمان؟ فرصة الاطمئنان على حاضرهم ومستقبل أبنائهم؟ في الواقع أنا لا أفهم لماذا تدير إسرائيل، ومن خلفها من يدعمها، ظهورهم للسلام.
إن كثيرًا من الأمور التي تجري في العالم حاليًا تخالف تمامًا مفهوم السلام، أو السير نحو السلام، بل إنها أمور مسيّسة مع الأسف، ومن المؤسف جدًا أن تكون حماس جزءًا من هذا التسيس، فمن دون شك إن قتل المدنيين الإسرائيليين ليس مبررًا، بل اعتداء مشين، وأعتقد أن هذا الموضوع جزء من الخلاف والانقسام الدولي، وكما الولايات المتحدة تضحي بأوكرانيا، فإن إيران تضحي بالفلسطينيين. لكن بالمقابل لا يحق لبعض الجماعات اليهودية المتطرفة وتحت أي ذريعة أن تدخل المسجد الأقصى بالأحذية والكلاب مدنسة ثاني أشرف أرض للإسلام بعد مكة، وأن تحرق كنائس وتتفل على مسيرة مسيحة كانت متجهة للكنيسة تحمل الصلبان، وغير ذلك من التصرفات الاستفزازية للفلسطينيين ولكل الأحرار والأغيار في العالم.
الفلسطينيون نفسهم رهينة بيد حماس، لا أحد يقول لنا أو يقيس مدى رضا الفلسطينيين بشكل عام عن أفعال حماس، ولكن في الوقت ذاته لا أحد يتذكر أن للفلسطينيين حقوقًا منتهك ة منذ زمن طويل، ومحزن أن يكون لأكثر من 70% من الشعب الفلسطيني لا زال في الشتات وفي المخيمات منذ أكثر من سبعين عامًا، وقد أصبحوا نسيًا منسيا، لا أحد يتذكرهم ولا أحد يفكر أساسًا بهذا الموضوع.
لقد طرحت الدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية مبادرة للسلام مع إسرائيل، وقبلت أن تعترف بدولة إسرائيل، ومن المؤكد لإسرائيل وللعالم بأجمعه أن العرب ليسوا في وارد رمي إسرائيل في البحر، بل أن يتعايشوا معها، ولكن إسرائيل تجاهلت كل ذلك خلال السنوات الماضية، بل ذهبت في غيها وتطرفها إلى إعلان نفسها دولة يهودية. الحال هنا هو أني كعربي أمد يدي ليد أخرى تتجاهلها أو تقطعها، فكيف أكمل الطريق؟ ولماذا تخذلون الإنسان العربي المعتدل الذي يحب السلام ويريد السلام؟ لماذا؟
ولقد كانت مملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة كما ذكرنا في مقدمة دول الخليج التي مدت يد الخير والتعاون المثمر مع إسرائيل من خلال ما بات يعرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، وقد تفاءلنا بذلك، وعلى إسرائيل أن تساعد على هذا الأمر، ولا تضيع هذه الفرص من خلال الحماقات التي ترتكبها، والانتقام الفارغ، والانجرار خلف الانتقام الأعمى.
الحمد لله أنه وهبنا في الخليج العربية قيادات حكمية تحرص على ألا تقحم شعوبها في نيران الحرب، حتى عندما دخلت البحرين والإمارات في الاتفاقات الإبراهيمية لاحظنا بوضوح الترحيب العالمي الواسع بهذا السلام الذي يسعى إلى تحقيق مصلحة الجميع. وهذا الترحيب الواسع مرده أن العالم يسعى إلى التعايش السلمي العالمي أكثر من أي فترة مضت، وذلك لأن العالم خاض تجارب الحروب ولم تثمر عن نتائج إيجابية لأي طرف. لذلك نما في الفكر العالمي ما يمكن أن نسميه بالقابلية للسلام والرغبة في تحقيقه.
قد تمحو إسرائيل حماس في هذه الحرب، أو تكسر شوكتها على أقل تقدير، وأنا بالمناسبة لا أمانع بمعاقبة كل من يعترض طريق السلام، ولكن إسرائيل لن تمحو الشعب الفلسطيني، ولن تدفعه لنسيان حقوقه، خاصة وأنه مشرّد محروم، وما من برهان أوضح على ذلك من أن أكثر من ستة أو سبعة أجيال فلسطينية ولدت بعد النكبة، ولم ينسَ أي منها أن لديه حقوقًا، وأرضًا محتلة مغتصبة.
لكن يجب أن تفهم إسرائيل أن الفصل العنصري لم ينجح في أي بلد في العالم، ولنا في جنوب إفريقيا مثال على ذلك، فرغم كل ما بذلته بريطانيا والغرب من جهود من أجل السيطرة على هذا البلد، إلا أنه انتفض أخيرًا وأخذ حقوقه بعد مسيرة نضال طويلة دامية، وإسرائيل لن تسيطر على العرب أيضا، ولن تنفعها قوة السلاح والتقدم العلمي في ذلك؛ لأن فطرة الإنسان العربي مجبولة على الكرامة والعزة، ولا يمكن إغراؤه والسيطرة عليه بالوعود والكلام المنمق.
لقد تواصلت مع صديق قديم لي يعيش في غزة حاليًا بهدف الاطمئنان عليه وتقديم ما يمكن من مساعدة، وهو مثقف، وضد حماس، سألته: لماذا فعلتم ذلك وأنتم تعلمون بأن إسرائيل لن تسكت، وسترد عليكم وتقتلكم؟ فأجاب: نحن أموات نمشي على الأرض، أنا الغريق فما خوفي من البلل؟
ما حصل ويحصل كارثة بكل معنى الكلمة، وهذه الحرب ستعطينا واقعًا جديدًا يمكن كثيرًا أن نستفيد منه، ولكن ربما تكون فرصة مواتية ليصحو الضمير العالمي ولو مرة واحدة ويستثمر هذه الحرب في أن يفرض على الجميع بلا استثناء أنه لا للحرب، نعم للسلام.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق