أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض

كل الدول التي سارت في طريق التقدم والازدهار أدركت مسبقا أن العلم والتعليم أولوية مطلقة، وركيزة أساسية، ولنا في اليابان وسنغافورة أسوة حسنة، فالتعليم أولاً، وقبل كل شيء، فهو أداة بناء الأجيال، وصناعة المستقبل المشرق مهما كانت التحديات كبيرة والموارد قليلة.

وعندما رأيت الطلبة يعودون إلى مدارسهم وجامعاتهم صباح الأحد الماضي، رأيت فيهم مستقبل البحرين، وفي حيويتهم وضحكاتهم غدا فيه المزيد من التقدم والحداثة لوطننا العزيز. رأيت فيهم العقول والسواعد القادرة على تحقيق أحلامنا وأهدافنا المنشودة في نقل البحرين إلى مصاف الدول المتقدمة على جميع الأصعدة.

وقد تتوجت مشاعر السرور والفخر لدي في ذلك اليوم بالكلمة التي وجهها حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد، وحديث جلالته عن السعي الدؤوب للارتقاء بالمسيرة التعليمية والأكاديمية؛ لتحقيق أفضلِ المخرجات التعليمية لمواكبة مستجدات سوق العمل، ولإعداد الطلبة علميًا وسلوكيًا وقيميًا وتعزيز انتماءهم الوطني، وإشارته حفظه الله إلى تحقق من نتائج إيجابية في المسيرة التعليمية من تفوق مستمر لأبناء البحرين كافة وتميزهم في مختلف المجالات والميادين على الصعيدين المحلي والخارجي كدليلٌ ساطعٌ وواضح على تطور التعليم في البحرين، وتطلع جلالته الدائم إلى مواكبة التَّقدم العلمي والتقني الذي يشهده العالم.

وعند التطرّق لكلمة جلالة الملك المعظم بشأن العلم والتعليم، نستذكر جوانب من الإنجازات التي حققتها البحرين بتوجيهات جلالته، بما في ذلك التوجه نحو علوم الفضاء، والذكاء الصناعي، والأمن السيبراني، والتقنيات الحديثة، والتركيز على جعل البحرين موطنا للأفكار العلمية والتطبيقات العملية المميزة في مجالات متقدمة مثل التكنولوجيا المالية، إضافة إلى تأهيل وتدريب البحرينيين من خلال المعاهد والجامعات ومن خلال دعم «تمكين» في مجالات علمية حديثة.

فنحن لن نستطيع دخول المستقبل، ومقارعة الدول المتقدمة علميا إذا كنا لا زلنا ندرس بالطرق التقليدية، ولقد أصحبت البحرين من رواد هذا التوجه والتفكير، ولقد أولى عاهل البلاد حفظه الله اهتمامًا خاصًا بالتعليم، وكرم التعليم، والمعلمين، والطلبة. إن هذا التوجه يبعث على الطمأنينة والارتياح، وأنا أرى فيه الكثير من الخير.

ولا بد من التركيز بشكل خاص على المعلم، فهو حجر أساس العملية التعليمية، ولا شك أن المناهج، والبنية التحتية والمختبرات، والأدوات التعليمية المساندة، كلها أمور تعتبر من ضروريات العملية التعليمية، لكن أهميتها تأتي بالدرجة الثانية بعد أهمية المعلم القادر على غرس حب التعلم في نفوس الطلبة، وجعلهم يتشوقون الذهاب للمدرسة، ولا يملون منها.

بل إن المعلم يا سيدي برأيي هو أهم رجل في المجتمع؛ لأنه إن استطاع أن يكون معلمًا صالحًا متفرغًا، ويعطي من قبله لأنه يحب ما يفعل، سيخلق أجيالاً صالحة منتجة معطاءة، لذلك يتفق الجميع على أن مهنة التعليم مقدسة، وأن المعلم يأتي قبل المحامي والقاضي والمهندس والطبيب والجميع، لأنه هو من يعلمهم ويضعهم على الطريق الصحيح.

وعندما قررت سنغافورة بناء تقدمها الحديث انتبهت لذلك، فتوجهت إلى المعلم، ووضعته في أعلى السلم المهني، ومنحته أعلى الرواتب، والامتيازات، وأثبت هذا التوجه صوابيته بمرور الوقت، حيث نهضت البلاد بهمة وسواعد المعلمين، وكانوا أساس التنمية البشرية، التي بنيت عليها لاحقا الازدهار الصحي والسياحي والاستثماري والمالي.

لدي استثمارات في أنشطة عديدة مثل الضيافة والعقارات، لكن من الاستثمارات المحببة إلى قلبي هي استثماراتي في التعليم، وربما أقول إن حبي للتعليم كان دافعي الأساسي – من ضمن دوافع أخرى – للاستحواذ على المدرسة البريطانية في البحرين قبل عدة أعوام، ثم مدرسة «كويست» بعد فترة، وكل نجاح تحققه هاتين المدرستين بنظامهما التعليمي العالمي المميز هو نجاح للبحرين أعتز وأفخر به.

وأود أن أؤكد هنا، وعن خبرة ودراية، أن كل دينار يجري استثماره في نظامنا التعليمي يعود علينا بعشرة أضعاف من حيث الفوائد التي يجنيها الاقتصاد والثقافة والمجتمع ككل، وإذا نظرت إلى الأمر كرجل أعمال يمكنني التأكيد على أن زيادة الاستثمار في التعليم هي الوسيلة الأكثر جدوى حتى من الاستثمار في الثروات الطبيعية.

ويمكننا البناء على رصيد من ازدهار التعليم في البحرين يمتد لأكثر من مئة عام، فالبحرين لديها واحد من أقدم أنظمة التعليم العام في الخليج العربي والمنطقة، حيث ظهرت المدارس بمفهومها الحديث منذ مطلع القرن الماضي، كما كانت البحرين أول دولة خليجية تفتح مدارس حكومية نظامية لإناث، وكثيرًا ما يقال إن واحدًا من الآثار الإيجابية لنظام التعليم الحديث في البحرين كان الجمع بين الأطفال من مختلف الطوائف، وخلق الإحساس بالهوية الوطنية المشتركة ومنع ظهور التمييز الطائفي، وهذا يعني أن التعليم أسهم في التثقيف والتنوير وتعزيز العيش المشترك.

علينا أن نعمل أكثر على استثمار كل ذلك في تعزيز ما بات يعرف بـ«السياحة التعليمية»، حيث لدى البحرين الكثير من العوامل التي تجعل منها وجهة كبيرة للطلاب الأجانب، لديها تكاليف معيشة أرخص بكثير من العديد من دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، مما يجعلها في متناول سكن الطلاب، وربما بالإمكان أيضًا جعل رسوم التعليم ذات قدرة تنافسية عالية.

إلى جوار التعليم يجب أن نركز على التدريب أيضًا. يعمل لدي عشرات من البحرينيين، وأدرك تمامًا أنهم قابلين للتعلم الدائم، لكن علينا الاستثمار بهم دائمًا لناحية التدريب والتطوير، فغالبًا ما يجد الخريجون البحرينيون أنفسهم في منافسة مع غير البحرينيين الذين هم على استعداد لأداء نفس العمل بنصف الأجر، والحل الوحيد لذلك هو أن يكون البحرينيون أقدر على أداء هذه المهمة بضعفين.

في الواقع أعرف كثيرًا من أصدقائي ومعارفي من الذين يخططون لتعليم طفلهم منذ لحظة ولادته، ويخصصون مبلغًا ماليًا شهريًا يضعونه في صندوق، في حساب بنكي خاص عادة مفصول عن ثرواتهم، ويغذون هذا الحساب بمبلغ شهري مقطوع، حتى يضمنون أن ابنهم سيحصل على التعليم المطلوب بصرف النظر عن تقلب أحوالهم المالية.

يمر اقتصاد البحرين في أوقات ليست سهلة، وربما سنقول وداعًا للنفط في فترة ليست بعيدة، وهي فترة يجب أن يقود القطاع الخاص فيها دفة النمو، لذلك يجب أن يكون الجيل القادم من أولادنا مبدعين ومبتكرين وقادرين على اقتناص الفرص وتوليد الإيرادات، ويلعب التعليم الدور الأكثر حسمًا في ذلك.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق