غداء من نوع آخر

خلال زيارتي الأخيرة إلى لندن اجتمعت مع صديق لي جعلني أرى الدنيا بمنظور فكري وثقافي أعمق، ورغم أنني قارئ ومطلع بل ومفتون بالفكر والثقافة والتراث حول العالم منذ أيام دراستي في الجامعة الأمريكية في بيروت وحتى الآن، إلا أنك تصادف أشخاصا يجعلونك تقف أمام ذاتك مرة أخرى، وتعيد اكتشاف العالم من حولك، وتدرك بحق أن فوق كل ذي علم من هو أعلم وأخبر منه.

عندما تواصلت مع هذا الصديق القديم الذي أعرفه منذ أكثر من ثلاثين عاما، والذي كان يزور لندن حينها لغرض السياحة مثلي، طلب مني أن يكون اللقاء على الغداء في مطعم داخل متحف The Wallace Collection وسط لندن، وبالتحديد خلف سلفردجز.

ذهبت وأنا أتصور أنه سيكون لقاءً عابرًا على غداء مع صديق، يتم فيه الاطمئنان على الصحة والعائلة والأعمال، والحديث عن الذكريات، والحاضر، والمستقبل، وتبادل الآراء حول بعض القضايا العامة، ثم الوداع على أمل اللقاء مستقبلا، لكن الأمر لم يكن على النحو على الإطلاق، بل يمكنني القول إن هذا الغداء كان أفضل ما أجمل ما فعلته خلال إجازتي التي امتدت لنحو شهر كامل في أوروبا.

تبين لي أن صديقي تعمد اختيار هذا المطعم داخل متحف «مجموعة والاس» لأنه أراد أن يصحبني في جولة داخل هذا المكان الرائع الذي يشغل منزل هيرتفورد في ميدان مانشستر، المنزل المستقل السابق لعائلة سيمور، مركيز هيرتفورد، والذي تم تسميته على اسم السير ريتشارد والاس، الذي بنى المجموعة الواسعة، جنبًا إلى جنب مع مركيز هيرتفورد، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

كان هذا الصديق العزيز يتحدث بشغف ومعرفة عن كل ما تقع عليه عيناه من إحدى مقتنيات المتحف التي تتميز بالفنون الجميلة والزخرفية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر مع مقتنيات مهمة من اللوحات الفرنسية من القرن الثامن عشر والأثاث والأسلحة والدروع والخزف ولوحات المعلم القديم مرتبة في 25 معرضًا.

وكانت معظم كلماته «ما أجمل، ما أعظم، يا للروعة، يا للإبداع..»، وأكاد أجزم أن معلوماته عن التحف تكاد تكون أكثر من معلومات القائمين على المتحف أنفسهم، فقد أعجبت جدا بمدى معرفته، وكأنه دليل متمرس أمضى حياته في دراسة معروضات هذا المتحف.

هذا الصديق والأخ هو السيد محمد المري، والذي أعتز بمعرفته منذ تقابلنا لأول مرة منذ نحو ثلاثين عاما في دبي، إنه صحفي لامع بدأ حياته ككاتب ثم تدرج في بعدة مناصب مهمة، وقام بالعديد من الإنجازات، من أهمها باعتقادي هو المشروع الذي وضع فيه شغفه الأساسي، مكتبة دبي، التي بناها بتوجيه من الشيخ محمد بن راشد حجر حجر، وقدم إليها الكثير من مجموعاته الفنية المهمة، بما فيها المخطوطات العربية النادرة.

وأرجو من كل من يزور دبي أن يزور هذه المكتبة، حتى لو كان لا يهتم بالفنون، لكنه بلا شك سيعجب من مقدرة المثقف وما يستطيع تقديمه، وكيف يحول المكان إلى مركز إشعاع من العلم والنور.

أنا فخور بأن الصديق محمد كان أول من زار «متحف دبي للصور المتحركة» الذي دشنته في دبي، ويضم نحو 300 من أهم مقتنياتي الشخصية ذات الصلة بتاريخ صناعة الصورة المتحركة، والتي جمعتها خلال رحلاتي المتعددة لدول كثيرة حول العام على مدى أكثر من ثلاثين عاما.

رأيت في عينيه حينها نفس الشغف وهو يتجول في متحف «دبي للصور المتحركة وتاريخ السينما»، وكأنه في رحلة خاصة في تاريخ السينما وبداية الصورة، ويستعرض رحلة الصورة والحركة منذ بدايتها السحيقة مع إنسان الكهف، حين كان يرسم الرموز على الجدران، وصولًا إلى مرحلة الرسومات والصور التي تقدم كأفلام سينمائية، والتي كانت البنية الأساسية للأفلام التي نشاهدها اليوم، أشار لي حينها إلى أن زيارة المتحف أشبه برحلة استكشافية تعود بنا إلى أكثر من 400 سنة في الماضي، وتستقطب محبي القطع الأثرية والشغوفين بالسينما وعالم الصورة بشكل أساسي.

لقد كان عملي في مجال تخطيط وتصوير الإعلانات منذ ستينيات القرن الماضي بداية علاقتي مع عالم الصورة والأفلام، وفي الواقع لدي العديد من المقتنيات مثل ساعات وسيارات كلاسيكية، لكن جمع المقتنيات الخاصة بهذا المتحف كان الأصعب، ومن خلال هذه الرحلة يمكنني الحكم على أهمية التراث والمقتنيات الأثرية لدى شريحة واسعة من الناس.

في الواقع، يمكن التذكير مرة أخرى بأن المتاحف هي جزء رئيس من المنظومة الثقافية السياحية العالمية، وتشهد دائمًا إقبالًا كبيرًا من السياح يمشون بين ممراتها ويتنقلون في أروقتها لتذوق الفن وإعادة قراءة التاريخ، ولقد قدمت العديد من الدول الأوروبية مثل بريطانيا وإسبانيا وهولندا وروسيا نماذجَ في كيفية تطوير وتنظيم المتاحف لجذب زوارها، وأنا مع الأفكار الداعية إلى مزيد من التسويق والدعاية لعرض القطع النادرة والمقتنيات الثمينة بعد تصويرها ومن ثم تكبرها ولصقها على الجدران مع التعريف بها في المجمعات التجارية الجديدة والأسواق الشعبية وعلى الحافلات وفي الشوارع والمدن والقرى ليرى الناس حولهم في كل وقت هذه القطع النادرة والتي تعود لحضارات عريقة.

ويمكن القول إن المتاحف كباقي عناصر السياحة الثقافية تعد موردًا اقتصاديًا وسياحيًا مهمًا كونها أحد أهم أركان السياحة الثقافية الجاذبة في عالمنا اليوم، إضافة إلى عناصرها الأخرى مثل المسارح والفنون والمعارض والمهرجانات الثقافية والفنية، والتي تلعب دورًا رئيسًا للاطلاع والترفيه والاستجمام، ما يؤسس لتنمية مستدامة ذات منافع اقتصادية واجتماعية جمَّة.

ومن خلال أهمية المتاحف في التراث الإنساني الذي يعد من القيم والمعاني والدلالات الثقافية والتاريخية والفنية والاجتماعية والاقتصادية التي تجسد تاريخ الأمم والشعوب، وتعمل على إبراز عناصر الفن والجمال والتميز والإبداع والأصالة عبر مسيرة التاريخ الحضاري والإنساني، وتغذي روح الانتماء والهوية للشعوب بتمسكها بحضاراتها وتراثها وعدم انفصالها عنه.

كانت وجبة الغداء في مطعم متحف «مجموعة والاس» خفيفة على المعدة، لكن الزيارة كانت دسمة على العقل فكريا وثقافيا، ورغم شغفي بالفن، وتاريخي الطويل في جمع التحف والمقتنيات الأثرية، إلا أنني لم أشعر إنني بحياتي تذوقت الفن كما تذوقته برفقي صديقي محمد المري في ذلك المتحف البريطاني، وأتمنى أن أحظى دائما بمثل هذا الغداء المميز برفقة أصدقاء مميزين.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق