إجازة سعيدة؟

من الأمور التي لا يمكن تجاهلها هنا في أوروبا؛ حيث أمضي إجازتي هذه الأيام؛ هي تداعيات الحالة الاقتصادية الصعبة والمحزنة على الجميع، مواطنين وشركات: غلاء فاحش في أسعار المنتجات والخدمات، وضرائب بات من الصعب حتى على متوسطي الدخل تحملها، وتضخم ينتج عنه انخفاض قيمة اليورو أو الجنيه الإسترليني، وفقدان للوظائف والأعمال، وأفق يزداد ضيقا يوما بعد يوم.

باتت أوروبا والغرب قاطبة يشهد صراعًا جديدًا، مثل الجدل حول حقوق المثليين. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من التحديات التي أصبحت مرعبة، حيث يجب أن تكون معدلات الجريمة في لندن عالية للغاية حتى تُعتبر جريمةً حقيقية. والجرائم مثل السرقة والعنف في الشوارع يتم التعامل معها على أنها أمور بسيطة، ولا يُبلغ عنها للشرطة في كثير من الحالات، وحتى إذا تم الإبلاغ عنها، يتم تجاهلها بسخرية، وأضيف إلى ذلك تحديات كبرى مثل التغيرات المناخية والحرائق وغيرها.

طبعا من ينظر إلى أوروبا من الخارج لا يشعر بوطأة الحياة هنا، وربما لا يرى أن هناك مشكلة إطلاقا، فبريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا هي أرض الأحلام، وفيها نهر التايمز وساعة بيغ بين وبرج إيفيل وبرج بيزا المائل، والناس يظهرون في محيط هذه المعالم السياحية الأثرية في غاية السعادة، يلتقطون الصور مع ابتسامات عريضة على وجوههم.

لكن هناك مشكلة بكل تأكيد، يدرك أبعادها وحجمها وخطورتها الحكومات والسياسيون ورجال الأعمال والاقتصاد وأهل الاختصاص، لكن غالبية الناس كما أراهم هنا غير قادرين على فهم ماذا يجري بالضبط، يرددون ما يقوله لهم الإعلام عن تداعيات الحرب في أوكرانيا، وعن التضخم، ومشاكل سلاسل الإمداد، وتداعيات جائحة كورونا، لكني أرى أن الأمور أعمق من ذلك بكثير، وأن الأمر قد يذهب إلى أفول نجم الدول الأوربية كقوى عظمى.

من عاش في أوروبا، والغرب بشكل عام، يدرك أن الضرائب هي الشغل الشاغل للناس في هذه المنطقة الجغرافية من العالم، فهي المصدر الأول والأكثر أهمية لتمويل المشروعات الحكومية، بما فيها التعليم والصحة والبنية التحتية والنقل وغيرها.

المشكلة اليوم أن الحكومات الأوربية بين المطرقة والسندان بالفعل، فهي بحاجة لمزيد من الأموال من أجل مكافحة التضخم وتوفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، ولا ترى سبيل أمامها سوى فرض المزيد من الضرائب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تدرك تلك الحكومات تماما أن شرائح واسعة من الناس باتت تئن تحت وطأة الحاجة والعوز والفقر، بل والجوع، وعاجزة عن سداد حتى إيجار بيوتها ومحتارة في توفير قوت يومها.

قرأت تقريرا منذ عام تقريبا عن عمل نساء بريطانيات في الدعارة بعلم أزواجهن، وذلك للمساعدة في توفير بعض النقود للإيفاء باحتياجات الأسرة الأساسية من غذاء ودواء وتعليم الأطفال، وتوقعت حينها أن هذا التقرير مبالغ فيه، لكن أنا حاليا أصدق كل ما جاء فيه، بعدما رأيت بعيني العوز والحرمان في عيون الناس هنا.

هذا الحديث يقودني إلى حديث آخر أكثر أهمية، وهو أن الحكومات الأوربية والأحزاب والسياسيين بشكل عام لم يعودوا أولئك الملائكة الذين يتصفون بالنزاهة ويعملون بإخلاص لمصلحة أوطانهم، بل باتت المصلحة الشخصية، وجمع المال، هما الأولوية، ولتذهب كل أحاديث الحكم الرشيد والديمقراطية والشفافية إلى الجحيم.

بات حال أوروبا كسفينة غارقة، فقدت الكثير من قوتها وهيمنتها ومستعمراتها، وقد رأينا كيف أن روسيا تتمدد حاليا في دول إفريقية عدة على حساب فرنسا مثلا، ويدرك السياسيون وأصحاب القرار في أوروبا هذا جيدا، لذلك يرون أن الحلول أمامهم فردية: لماذا لا أقفز من السفينة بعد أن أملأ حقيبتي بأكبر قدر ممكن من الأموال؟

يمكنني إعطاء أمثلة كثيرة عن سياسيين أوربيين كانوا في يوم من الأيام في أعلى المناصب، وبعد تقاعدهم باتو يديرون شركات نفط، أو حتى أسلحة، أو يضعون خدماتهم الاستشارية تحت تصرف من يدفع أكثر، حتى لو كان أعدائهم التقليديين.

السياسيون اليوم في الواقع لا يراعون ضرورة منح الفرصة للمفكرين والعقول النيرة لتطوير حلولا للمشكلات التي تعاني منها أوطانهم، وذلك لأنهم يدركون تمامًا أن الحفاظ على الهيمنة الغربية على العالم لن يدوم طويلاً. ليس لدي النية أن أقول إن البدائل موجودة بالفعل، فقد يؤدي فقدان الغرب لمكانته القيادية إلى انتقال هذه المكانة إلى قوة أخرى. ومن يدري أين ستقودنا الأمور؟ فعلى مر التاريخ، تتبدل قصص البشرية بين التفوق والانحدار، حيث يصعدون إلى القمة جميعًا ثم يهبطون إلى القاع معًا.

رأيت رسما كاريكاتوريا منذ فترة، يظهر فيه ثلاثة أشخاص يحملون سياطا كتلك التي تضرب بها الخيل، لكنهم أقزام، ينظرون إلى الأعلى إلى ثلاثة أشخاص آخرين عزل من كل شيء، لكنهم أصبحوا عملاقة، ينظرون إلى الأسفل، وكتب على واحد منهم أفريقيا، والآخر الهند، والثالث الصين.

هذا الرسم بات من أكثر الرسومات تداولا خلال الفترة الأخيرة، يقول بشكل واضح إن دول العالم الثالث أو النامي لم تعد تدور في فلك الدول الاستعمارية العظمى كما كانت خلال المئة عام السابقة، بل باتت دولا قوية تنافس مستعمريها السابقين، وتعمل بجهد لاستقلال عنهم أولا، ومنافستهم وأخذ مكانهم ثانيا.

إذا نظرنا إلى أمريكا، على سبيل المثال، تشعرنا بالقلق حيال مستقبل نمط حياتها ومكانتها في العالم، بعد أن تبين للجميع أنها تسعى لفرض نمط حياة محدد على الآخرين، حتى إذا كان ذلك يتطلب استخدام القوة العسكرية، وهذا هو الشر المتجلي.

صراحة، ما عدت أستمتع بإجازاتي هنا في أوروبا كما كنت سابقا، فكي تكون سعيدا يجب أن ترى الناس من حولك مرتاحين سعداء، وهذا لم يعد موجودا على نطاق واسع، وباتت العودة من الإجازة إلى البحرين الحبيبة هي ما يشغل تفكيري حاليا، وفي الواقع، علينا أن نحمد الله تعالى جميعا على نعمة البحرين، ونعمة دول الخليج العربي، وأن نفكر كثيرا بتحصين دولنا ودعم جهود قادتنا لتحقيق المزيد من التنمية، وذلك لأسباب كثيرة لتعرفها يكفي أن تقرأ صحفنا وترى ما تبذله الحكومة من جهود لتوفير خدمات التعليم والصحة والإسكان وكغيرها، وأن تقارن كل ذلك مع الصحف الأوربية والمشاكل التي تغص بها.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق