ماذا يعني نجاح السعودية في مفاوضات أوكرانيا، وتفوق هذه المفاوضات على جميع المفاوضات التي حصلت من قبل؟ لا شك أن وضع حد للحرب العبثية بين روسيا وأوكرانيا هو مطلب كل عاقل في هذا العالم، لكن الزاوية التي أنظر منها إلى هذه المفاوضات هي الدور السعودي المتنامي على الصعيد العالمي، ليس اقتصاديا أو ماليا كما تعودنا سابقا، بل سياسيا ودبلوماسيا أيضا.
السعودية برهنت من خلال استضافتها وتسهيلها المفاوضات في جدة أنها دولة تحترم من قبل جميع العالم، بما في ذلك الصين، فقد حضر تلك المفاوضات 35 دولة، بينما مفاوضات كوبنهاجن لم يحضرها أكثر من 15 دولة، حيث إن السعودية لم تنحز، على عكس الدنمارك، إلى أي من أطراف هذه الحرب وتُعتبر بالتالي وسيطاً أكثر نزاهة وحيادية، كما أن القيادة الروسية تصغي إلى نظيرتها السعودية، كما تمتلك السعودية أفضليةً أخرى، إذ يمكنها التحدث مع جميع الأطراف، بمن فيهم الصينيون الذين لم يشاركوا في محادثات الدنمارك.
لا ننسى أن عملية تبادل الأسرى التي حصلت العام الماضي بوساطة سعودية تعتبر مثالا بارزا على الدور السعودي القوي، إذ أدّت إلى إطلاق سراح مواطنين أميركيين وبريطانيين وسويديين، إلى جانب مواطنين من دول أخرى أيضاً. وقد شكر الرئيس فولوديمير زيلينسكي شخصياً السعودية على الجهود التي تبذلها والدعم الذي تقدّمه لأوكرانيا، وشمل ذلك مساعدات تخطّت قيمتها 400 مليون دولار.
أنا أتابع الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها، ولم أسمع على مدى أكثر من عام ونصف حتى الآن سوى تصعيد من جميع الأطراف، وأرى تفاقم حدّة التوترات بدل التخفيف منها، ذلك رغم أن الجميع مقتنع أنّ الحلّ العسكري لن ينهي هذا الصراع إلّا أنّ غرور جميع الأطراف المعنية أو استثمارها الكبير فيما يجري يمنعها من الاعتراف بما هو بديهي.
ومن خلال تلك المتابعة، بمكنني التأكيد على أن المحادثات في جدّة لم تقتصر على إيجاد اقتراح سلام فحسب، بل أظهرت انتصار السياسة الحكيمة والصبورة والبراغماتية للسعودية الجديدة مقابل القرارات الشعبوية، وأحياناً غير العقلانية والإيديولوجية التي تعتمدها معظم الديموقراطيات الغربية اليوم مع الأسف.
في الواقع، الحرب الروسية الأوكرانية لم ترهق هاتين الدولتين فقط، بل العام بأسره، حيث أدّت إلى ارتفاع فواتير الطاقة، ونقص الغذاء، إضافةً إلى الخطر المحدق المتمثّل بإمكان حدوث حرب نووية، فوفقاً للأمم المتحدة أسفرت هذه الحرب عن تقلّب أسعار السلع الأساسية والطاقة وارتفاعها، ما أدّى إلى تفاقم مشكلة نقص الغذاء وارتفاع نسب التضخم في مناطق عدّة حول العالم.
قد يكون من المهم هنا التذكير بأن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسينجر والذي يوصف بالعقل المدبّر للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، لطالما نصح الغرب بالتحدث مع روسيا، وأكد أكثر من مرة أن التغييرات الاستراتيجية التي تمّ تحقيقها تبشر بتحقيق السلام من خلال التفاوض.
السعودية تتقدم لدور صانع السلام في الحرب الأوكرانية، وترسيخ حضورها في المسارات الدبلوماسية المرتبطة بحرب أوكرانيا، فلقد استضافت السعودية الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، في اجتماع لقمة جامعة الدول العربية في جدة، وأيّدت الرياض قرارات مجلس الأمن الدولي التي تدين الغزو الروسي وضم روسيا لأراض في شرقي أوكرانيا، لكن في الوقت ذاته، واصلت السعودية التنسيق مع روسيا بشأن سياسة الطاقة ضمن تحالف “أوبك بلس”، بما في ذلك قرارات خفض إنتاج النفط التي تمت الموافقة عليها، في أكتوبر الماضي، كما لعبت الرياض دورا في التوسط في إطلاق سراح مقاتلين أجانب محتجزين في أوكرانيا، بينهم اثنان من الولايات المتحدة وخمسة من بريطانيا.
لا أحد يتوقع وقف إطلاق النار في نهاية هذا الأسبوع. لكن كييف لم تحقق بعد انفراجة بهجومها المضاد، ويبدو أن روسيا غير قادرة على تحقيق هدفها المتمثل في الإطاحة بحكومة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لذلك قد تكون إمالة ميزان الرأي العام الدولي أفضل وسيلة لجلب الجانبين إلى طاولة المفاوضات. والسعودية في وضع يمكّنها من القيام بذلك.
لذلك نحن نطلع إلى أن تسهم اجتماعات جدة في تعزيز الحوار والتعاون من خلال تبادل الآراء والتنسيق والتباحث على المستوى الدولي حول السبل الكفيلة لحل الأزمة الأوكرانية بالطرق الدبلوماسية والسياسية وبما يعزز السلم والأمن الدوليين، ويجنب العالم المزيد من التداعيات الإنسانية والأمنية والاقتصادية للأزمة.
لقد ذكرت وكالة الأنباء السعودية أنه “تأتي استضافة هذا الاجتماع استمرارا للمبادرات الإنسانية والجهود التي بذلها في هذا الإطار صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء”، والاتصالات التي أجراها ولي العهد “مع القيادتين الروسية والأوكرانية منذ الأيام الأولى للأزمة، وإبداء سموه استعداد المملكة للقيام بمساعيها الحميدة للإسهام في الوصول إلى حل يفضي إلى سلام دائم، ودعمها لجميع الجهود والمبادرات الرامية للتخفيف من آثار الأزمة وتداعياتها الإنسانية”.
في الواقع، ومن خلال استضافة تلك المفاوضات، تثبت المملكة العربية السعودية مرة أخرى أنها بحق “الدولة الخيرة”، التي تسعى بكل إمكاناتها لإحلال السلام العالمي وحقن الدماء ودفع مسارات التنمية والازدهار، وهو دور يمكن التأكيد على أنه لا الولايات المتحدة ولا الصين ولا فرنسا ولا بريطانيا ولا حتى الأمم المتحدة نجحت به كما نجحت السعودية.
هل هناك داع لتذكريكم بأن السعودية تمكنت من إنهاء صراع دموي وحرب أهلية طاحنة في لبنان امتدت على مدار 15 عاما كاملة من خلال “اتفاق الطائف”؟، ذلك عندما نجحت في إقناع معظم المتحاربين بالجلوس على طاولة واحدة وإنهاء الحرب بعد مفاوضات مضنية تحملت السعودية أعباء كبيرة خاصة الجانب المادي منها.
لقد أعطت رؤية 2030 وطموحاتها المملكة العربية السعودية قوى كبيرة جديدة، والقيادة السعودية تدرك أن القوة العظمى تترتب عليها مسؤوليات عظمى، لذلك تُصرّ المملكة العربية السعودية على حلّ مسائل المنطقة، السودان واليمن وإطلاق مبادرات خضراء وإيجاد حلّ عادل للفلسطينيين وغير ذلك من القضايا العالقة، والسعودية لديها كل العزم والإمكانات اللازمة لتحقيق ذلك.
