فيما تغرق أجزاء كثيرة حول العالم في مشاكل الصراعات والحروب والفتن والفقر وتراجع مستويات المعيشة وضبابية المستقبل، تبرز منطقة الخليج العربي -بحمد الله- كواحة للازدهار والاستقرار والتطور، خاصة بعد أن تمكنت بحكمة ملوكنا وزعمائنا وشجاعتهم من أن تنأى بنفسها عن تلك الصراعات، وتزيد من سرعة توجهها نحو العمران والتنمية بكل مجالاتها وأبعادها.
الكثير من الشواهد تبرهن على ذلك، وعلى أن مسألة بناء قدرات المواطن في البحرين وفي السعودية والإمارات وغيرها من دول الخليج العربي، وضمان رفاهيته، محط اهتمام الأول لخطط التنمية الوطنية، انطلاقًا من أن الإنسان هو منطلق كل تنمية، وغايتها، وأن الشغل الشاغل للحكومات الخليجية هو تغليب الاقتصاد على السياسة.
لننظر على سبيل المثال إلى مؤتمر الأعمال العربي الصيني العاشر الذي عقد الأسبوع الماضي في العاصمة السعودية الرياض، وكيف جمع هذا المؤتمر رجال أعمال من مختلف الدول العربية مع نظرائهم من الصين وسط حضور رسمي رفيع المستوى، وما أعلن عن اتفاقيات تجارية خلالها بمليارات الدولارات، لتؤكد أن ثمار ليست مقتصرة على العرب والصين فقط، بل المنطقة وربما العالم.
في الواقع، لقد تمكن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس الوزراء في المملكة العربية السعودية من إزاحة غشاوة سميكة عن عيوننا، وجعلنا نرى بشكل أوضح إمكاناتنا، ليست النفطية فقط، بل البشرية أيضًا من خلال تفعيل الطاقات العظيمة الكامنة والتي أصبحت توازي بإمكاناتها ومعرفتها أفضل نظرائها حول العالم، والتي تبرهن يوما بعد يوم بأننا جزء مهم من هذا العالم، بل تعطينا الأمل أننا في الطريق الصحيح في أن نصبح محور العالم.
وفي كل مرة أزور فيها السعودية أشعر أن هناك تحركات كبيرة في الحرين لتطوير هذا البلد وخلق فرص جديدة فيه، وأدرك أكثر أن ما حدث في السعودية خلال السنوات القليلة الماضية ليس مجرد تطور سريع، بل قفزات على جميع المستويات، ونرى المملكة الآن كلها ورشة عمل، صناعية تجارية عمرانية ثقافية ترفيهية، ونرى انعكاسات تلك القفزات أكثر شيء على الشعب السعودي نفسه، فالمرأة السعودية باتت إلى جوار الرجل تساهم في نهضة بلادها، والقطاع السياحي ينمو بسرعة كبيرة، وغير ذلك الكثير.
نعود لمؤتمر الأعمال العربي الصيني العاشر الذي جاء بعيد أيام قليلة من زيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكية انتوني بلينكن للسعودية، في أحدث مؤشر على أن تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط تسبب بفراغ سياسي واقتصادي دعا دول الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية لتعزيز شراكاتها مع أقطاب القوة في العالم، وفي مقدمتها الصين التي ترى أن دورها سيكون أساسيا في تحقيق رؤية الكثير من الدول العربية.
فالسعودية تعمل على استثمار موقعها الجغرافي لربط البلدان العربية مع الصين، بعد إطلاقها طريق حرير عصريًا وجديدًا لتحقيق نهضة شاملة للدول والشعوب وخلق فرص متنوعة وواعدة، في خطوة لزيادة حجم التبادل التجاري بين الجانبين، الذي وصل إلى نحو 430 مليار دولار في العام الفائت، بمعدل نمو 31%، مقارنة بعام 2021.
ولا شك أن الصداقة العربية الصينية تاريخية، وتهدف لبناء مستقبل مشترك نحو عصرٍ جديدٍ، يعود بالخير على الشعوب، ويحافظ على السلام والتنمية في العالم، ولدى الجانبين إمكانات كبيرة ورؤى مشتركة تكمن في العلاقات الاستثمارية والتجارية بين العالم العربي والصين، وتوافق مشترك وفرص جديدة للنمو والاستثمار، من شأنها تحقيق الرخاء والتقدم والازدهار لشعوب المنطقة والعالم.
ولا شك أيضًا أن السعودية تتمتع بمكانة قيادية في منظومة العلاقات الخليجية والشرق أوسطية، والعلاقات بين واشنطن والرياض تمتد لعشرات السنين، وقد تجاوزت الكثير من المراحل الصعبة واستعادت قوتها، لكن لا شك أيضًا أنه من الخطأ وضع البيض كله في سلة واحدة، ولا بد من توفر خيارات بديلة ومخارج طوارئ وأوراق أخرى يمكن رميها على الطاولة.
لا ننسى أن الصين لعبت دورًا مهمًا في الوساطة الأخيرة بين السعودية وإيران التي نتج عنها قرار استئناف العلاقات بينهما وإعادة فتح سفارتيهما في كلا البلدين، بعد 7 سنوات من التوترات، وهو ما عُدّ أيضًا انتصارًا دبلوماسيًا للصين في منطقة تسيطر الولايات المتحدة على جغرافيتها السياسية.
ورأينا كيف أن المحادثات السعودية الإيرانية نتج عنها أيضًا مبادرات لنزع فتيل التوتر في الشرق الأوسط، بما في ذلك اتفاقية لإنهاء الحرب في اليمن، وعودة سورية لجامعة الدول العربية المرهونة استدامته بتنفيذ الحل السياسي وفقًا لقرار الأمم المتحدة ذي الصلة، وربما نشهد أيضًا حلولاً للأوضاع المستعصية في لبنان، وغيره من المناطق.
ربما توزع السعودية الملفات على شركائها بحسب إمكاناتهم، واحتياجاتها، ففي الملف العسكري والأمني لا يمكن الاستغناء عن الولايات المتحدة، أما في الملف الاقتصادي والتجاري فالصين أولا، فصحيح أن للسعودية تعاونًا أمنيًا وعسكريًا مع الصين ولكنه لا يقاس بدرجة علاقتها التاريخية في هذا المجال مع الولايات المتحدة، بالمقابل، تشهد العلاقات التجارية مع الصين تطورًا كبيرًا.
المسؤولون الأمريكيون يقولون دائمًا إن واشنطن لا تجبر أصدقاءها على الاختيار بينها وبين الصين أو أي دولة أخرى، لكنهم يقولون أيضًا إن الولايات المتحدة تمثل الخيار الأكثر جاذبية في إطار تنافسها مع الصين، ويؤكدون ضرورة مراعاة المحافظة على نظام دولي يستند إلى القواعد، وذلك وفقًا لوجهة نظرهم طبعا.
لكن زيارة الرئيس الأمريكي بايدن للسعودية العام الماضي لم تحقق شيئًا يُذكر، وسعيه لإقناع الرياض بعدم خفض إنتاج النفط جاء بنتائج عكسية، فقد اتفقت السعودية وروسيا في إطار أوبك بلس على خفض الإنتاج، واضطر بايدن حينها لإطلاق كميات كبيرة من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي الأمريكي لطمأنة الأسواق والسيطرة على الأسعار.
ولقد وقفت دول الخليج أقرب إلى الحياد في الصراع بين روسيا والغرب في حرب أوكرانيا، وبمرور الوقت أثبت أن هذا الحياد هو القراء الصائب، وهذا ما نحتاجه بالفعل نحن كشعوب: قادة حكماء يعرفون جيدًا كيف يجنّبون بلادهم الدخول في توترات نحن بغنى عنها.
ما أجمل أن يكون التنافس بين دولنا على التطور والبنية التحتية والعمران والحضارة، والتباهي بالمشاريع العمرانية والاقتصادية العملاقة، والخدمات الإلكترونية والتحول الرقمي، وخطوط الطيران والمطارات، وجذب المزيد من السياح، والسفر إلى الفضاء، وغيرها الكثير.
