«كلٌ من إيده له»

ما تكاد الأوضاع السياسية والأمنية في لبنان تغيب عن الإعلام لبرهة حتى تظهر من جديد بقصة أخرى ومصيبة أخرى، وكأن المصير المحتوم لهذا البلد أن ينتقل من مشكلة إلى أخرى، وأن يحمل اللبنانيون همومًا فوق همومهم، وأن تنطفئ بسرعة كل بارقة أمل يعلقون عليها أحلامهم بغد أفضل لهم ولأولادهم.

أحدث تلك المصائب كانت اختطاف المواطن السعودي المطيري في لبنان ثم تحريره، والتداعيات السلبية لهذه الحادثة المرفوضة والمدانة على كثير من المجالات والقطاعات، وفي مقدمتها القطاع السياحي الذي كان يأمل بموسم صيف ينتعش فيه، ويعوض بعض خسائره.

لكن لا بد أن نشير في الوقت ذاته إلى أن سرعة كشف مخابرات الجيش اللبناني عن ملابسات الحادثة، وتحرير المخطوف، أضاف نوعًا من الثقة لدى السيّاح لجهة جهوزية القوى الأمنية في التعامل مع الحوادث من هذا النوع، كما أن سرعة القبض على الخاطفين تدل على رغبة الأطراف اللبنانية بشكل عام في الحفاظ على قوة دفع الموسم السياحي، بعد أن أعلنت وزارة السياحة توقعات بوفود أكثر من مليون زائر من سياح ومغتربين إلى البلاد، وذلك أملًا وطمعًا بنشاط يأتي ببعض التدفقات المالية التي يحتاجها القطاع ليعزز صموده.

لقد سيطرت حادثة اختطاف هذا المواطن السعودي في لبنان على مجمل المشهد السياسي في هذا البلد المثقل بالهموم، وباتت الشغل الشاغل للسياسيين والأحزاب والإعلام، وأعاد إلى الواجهة الاستهدافات المثيرة للمخاوف بفعل ضعف الدولة والسلطة أمام مجاهل «الدويلة» والفلتان المتحكّمين بمفاصل الاستقرار بما يخشى معه من تداعيات لهذا التطور المشبوه تحت ستار خطف للفدية على إعادة تطبيع العلاقات بين لبنان والدول الخليجية جميعها.

وما بين الإعلان عن تعرض مواطن سعودي للخطف على طريق المطار ليل السبت الماضي، والإعلان أمس عن إطلاقه بعملية نوعية لمخابرات الجيش، فترة قصيرة في الوقت، وإنما طويلة في حجم التساؤلات والهواجس ومشاعر القلق التي أثارتها العملية، وسط غياب المعلومات الواضحة حيال أبعادها، وهل هي فردية، وعلى مستوى شخصي، أو أنها تصب في سياق خلفية سياسية تهدف لزعزعة الاستقرار الأمني الهش على أبواب موسم سياحي واعد، أو أنها تستهدف المملكة العربية السعودية من خلال توجيه رسالة أمنية بأبعاد سياسية ترتبط بموقف المملكة اليوم من مسار الاستحقاق الرئاسي في لبنان.

وأياً تكن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء خطف المواطن السعودي أو الظروف التي رافقت تحريره، أو ما ذهبت إليه المخيلة السياسية والإعلامية في تقييم أهداف العملية، فإنها لا تخلو من تداعيات قد تتفاوت في حجم أخطارها، ولكنها لا بد أن تترك أثرها على المشهد السياسي الداخلي.

ومع تواصل الجدل بشأن خلفيات وأسباب الحادثة، إن كان ماليًّا، أو سياسيًّا، ينفتح الباب أمام حالة التشكيك بالأمن في لبنان، وما إذا كان الواقع الاقتصادي المُتراجع في لبنان، يجعل لتجّار السّلاح والمخدرات سطوة، أقوى من المُؤسّسات الأمنيّة، والتهديد الذي قد يطال اللبنانيين، أو الرعايا الموجودين في لبنان، ولكن سُرعة الجيش اللبناني والمخابرات اللبنانيّة في تحرير المخطوف بعد ساعات من اختطافه، قد يُخفّف من المخاوف المُتعلّقة بالأمن والأمان في لبنان، إضافةً إلى اعتقال عدد من الخاطفين.

الخاطفون بعثوا رسالة مطالبين بفدية مالية تقدّر بـ400 ألف دولار، وهذه الرسالة الهاتفية صدرت من الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم تم القبض على الخاطفين في منطقة حدودية بين لبنان وسوريا، وكلُ ذلك له دلالات كبيرة، ويمكن قراءته من عدّة أوجه.

لكن لا شك أن سرعة تحرير المخطوف دلّت على أن لبنان جادٌ ولديه جهوزية تامة للتعامل مع هكذا أمر، وهو أمر مطمئن إلى حد ما، ونأمل أنه تم احتواء العملية على الصعيد السياسي لمنعها من أي تفاعلات ستؤثر على العلاقات بين لبنان والمملكة العربية السعودية بشكل خاص.

ويمكن لجميع المراقبين التأكيد على حرص السعودية على تصفير المشاكل، وإصلاح أي ضرر في العلاقات مع الدول الأخرى، وقد لاحظنا مؤخرًا عودة العلاقات بينها وبين كندا، كما أن العلاقات السعوديّة – الإيرانيّة في أحسن أحوالها، فمن هو الطرف اللبناني المنزعج من تحسّن علاقات السعوديّة مع الجميع وإيران تحديدًا؟ على أي حال حزب الله لم يعلّق على الواقعة حتى الآن، وهذا أمر غريب بالفعل.

وقد تابعت العديد من الآراء التي أدلى بها الناس بشأن حادثة الخطف، حيث اعتبر بعضهم أن الحادث يُنذر بغيابٍ صارخ للأمن في لبنان في موسم تنتظره البلاد لاستقبال السياح وإنعاش البلد، والبعض قال إنه بعد اختطاف مواطن سعودي في لبنان لا أعتقد أن زيارة لبنان قرار سليم، و«ما كل مرة تسلم الجرة». لبنان بلد غير آمن حتى على أهله فكيف بمن يقصده من أجل السياحة؟

هذه الحادثة تأتي ونحن بالكاد تعافينا من الأزمة السياسية التي نتجت عن تصريحات وزير الإعلام اللبناني السابق جورج قرداحي، عندما رفض الاعتذار، وتصاعد الأمر وسحبت السعودية سفيرها من لبنان، ليس بسبب تصريحات قرداحي فقط، بل نتيجة لتراكمات كثيرة مثّلت تلك التصريحات إحدى أكبر مظاهرها.

حادثة الخطف انتهت على كل حال، ولكن من غير المعلوم؛ نظرًا لتوقيتها «الصيفي» إذا كانت ستدفع السعوديين والخليجيين الامتناع عن الذهاب إلى لبنان للسياحة والتمتّع بطبيعته الخلّابة، فكان سبق للسلطات السعوديّة العام 2017 أن حظرت سفر مُواطنيها إلى لبنان «لأسبابٍ أمنيّة» ثم رفعت الحظر العام 2019، فهل تُضطر لهذا الحظر، وهل ستكون هذه الحادثة فرديّة عابرة، أم أن لها مستفيدًا سيُعيدها ويُكرّرها؟!

كل حادثة تقع في لبنان، والوضع اللبناني بشكل عام، منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 وحتى الآن، يجب أن يكون عبرة لجميع الدول، خاصة الدول العربية، في أن تحافظ على سيادتها واستقرارها وأمنها، وحد أدنى من التفاهم بين مكونات مجتمعها. لكن مع الأسف دولاً كثيرة لم تعتبر، العراق وسوريا وليبيا واليمن ومؤخرًا السودان تحولت إلى دول فاشلة، والقائمون عليها لا يعتبرون ولا يتعظون من غيرهم، وأصبحت هذه الدول مرتعًا للخلاف والفتن والحروب، وطاردة لأهلها، ومرحبة بالغرباء على أرضها.

نأمل أن نستثمر كعرب التغيرات الجيوسياسية العالمية الجارية حاليًا، وأن نخرج منها أقوياء على الساحة الدولية بشكل أكبر، وهذا لن يحدث إلا إذا تمكنا من إعادة ترتيب بيتنا الداخلي، واستعدنا دورنا كاملاً في بناء وخدمة الحضارة البشرية.

بواسطة akmiknas

أضف تعليق