متى نخرج من لعبة الشطرنج؟

الحرب الباردة تسخن من جديد، ويوماً بعد يوم يتصارع العالم على رقعة شطرنج يقف الملك الأمريكي الذي لا يمس على طرفها، ويقف الملك السوفيتي/‏ الروسي الذي لا يمس على طرفها المقابل، وتلهب مربعات سوداء أو بيضاء في هذه الرقعة بالنزاعات والفتن والحروب، ويموت الجنود، ومن خلفهم الأحصنة والفيلة والقلاع، وحتى الوزير ذاته في معركة فرض النفوذ بين الملكين الأمريكي والروسي.

فليمت من يمت، لا يهم، في أوكرانيا أو السودان أو سوريا..، لا يهم، إنها دول تحولت لبيادق بيد اللاعبين الكبيرين، وطالما أننا لم نسمع حتى الآن عبارة «كش ملك من هذا الطرف أو ذاك»، فالمحرقة ستستمر، كما كانت على الدوام: على أرض كوبا تصارع الأمريكان والسوفييت بدماء الكوبيين، وفي فيتنام أيضا، وفي كل حروب منطقتنا خلال السبعين سنة الماضية، في العدوان الثلاثي على مصر، وفي نكسة 1967، وانتصار 1973.

أشكال النزاع بين الملكين الأمريكي والروسي على رقعة الشطرنج العالمي ليست عسكرية فقط، بل دبلوماسية واستخباراتية واقتصادية وتجارية وحتى ثقافية وفنية، بل إن أحد أشكال هذا الصراع يظهر حالياً في التحقيق مع محافظ مصرف لبنان المركزي رياض سلامة: جهة تلاحقه وجهة تحميه.

وقد وصلت العلاقات ما بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية إلى حافة الهاوية، لا سيما مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. بحيث بات يتردد في العالم مصطلح الحرب العالمية الثالثة، ويتواجه البلدان في مجالات عدة، منها ما هو مباشر ويأخذ شكل المواجهة الثنائية، ومنها ما قد يتسع ليصبح خلافاً دولياً حول قضية من القضايا، ومنها ما قد يوصف بأنه صدام طويل المدى يتعلق بالمصالح الاقتصادية الاستراتيجية لكلا الدولتين.

روسيا قوة أساسية على المسرح الدولي، ولا يمكن إنكار ذلك، وتمتلك جملة من عوامل القدرة التي تؤهلها للقيام بهذا الدور حالياً وفي المستقبل، وقد حرصت منذ مجيء فلاديمير بوتين الى السلطة في العام 2000 على استدراك تداعيات سقوط الاتحاد السوفياتي.

لا شك أنه يوجد على رقعة الشطرنج لاعبين كبار أيضا غير الملكين الأمريكي والروسي، هناك اللاعب الصيني بشكل أساسي، والذي بالمناسبة قد يحل مكان اللاعب الروسي، إضافة إلى لاعبين آخرين يحاولون إيجاد موطئ قدم أكبر مثل الفرنسي والبريطاني، لكنهم لا يشعلون حروباً ولا يدعمون انقلابات ولا يفرضون ثقافتهم وآرائهم على العالم بنفس الطريقة التي تفعلها أمريكيا وروسيا.

وطبعاً الطرفين يختبئان وراء مكياجات مختلفة من بينها الحرية والديمقراطية حقوق الإنسان، أو سيطرة العسكر والحكم الفردي الأكثر دراية بمصلحة الشعب، أو الرفاهية والازدهار والمساعدات العسكرية والاقتصادية، لكن كلها عناوين براقة تهدف إلى التوسع وزيادة نفوذ الكبار عبر استخدام الصغار، والسيطرة على خيرات الشعوب.

ربما تفاجأنا جميعاً باشتعال الحرب بين جنرالات الجيش في السودان، لكننا لم نكن نتابع المعطيات التي أدت إلى تلك الحرب، ومن بينها، وربما في مقدمتها، التنازع الأمريكي الروسي على هذا البلد العربي الغني بالخيرات. فبعد سقوط الرئيس السابق عمر البشير بدأت روسيا بالتوسع أكثر في السودان، حتى وصل الأمر إلى درجة بناء قواعد عسكرية، كما ظهرت أخبار عن سيطرة مجموعة «فاغنر» الروسية الخاصة على مناجم الذهب الوفيرة هناك.

السياسيون في واشنطن استشعروا الخطر، واعتبروا أن مد النفوذ الروسي في السودان هو جزء من خطة موسكو لتوسيع عملياتها في جميع أنحاء أفريقيا، ودعمت واشنطن حلفائها هناك، بما فيهم جماعة الإخوان المسلمين طبعاً، وهكذا اشتعلت الحرب التي لا أتوقع أنها ستهدأ قريباً، تماماً كأي بؤرة توتر وصراع في العام تتداخل فيها المصالح الإقليمية والعالمية.

من يراجع تاريخ منطقتنا بشكل خاص يرى أن لعبة تمزيق الدولة العثمانية، والحصول على تركتها في العراق وسوريا ولبنان وغيرها، ثم احتلال فلسطين، كلها أحداث مرتبطة ببعضها البعض، وتقف وورائها الدول العظمى التي تقاسمت أراضي منطقتنا فيما بينها عبر اتفاقية سايكس بيكو. 

لم تكن تلك الدول الاستعمارية: فرنسا وبريطانيا بشكل خاص وألمانيا وإيطاليا وهولندا وغيرها بشكل عام تشعل الحروب في مناطق مستعمراتها لأن لديها ما يكفي من تلك المستعمرات، لكن بعد الحرب العالمية الثانية تغير كل شيء، تحاربت تلك الدول فيما بينها حتى تهالكت، ونهض المارد الأمريكي الذي سيطر عليها، بل وانتزع شرف النصر من الاتحاد السوفيتي الذي لم يعرف كيف يستثمر نصره على النازية لصالحه كما يجب.

لم يستطع الإنسان العربي خلال التاريخ أن يملك زمام أموره، وأن يملك مشروعه الخاص. مع بدايات القرن الماضي فشل الشريف حسين في إقامة الدولة العربية الكبرى بعد أن انقلب عن الدولة العثمانية ثم خانته الدول الغربية، وفشل ابنه فيصل من بعده في لم شمل سوريا والعراق وغيرها. وانتظرنا خمسين عاماً أخرى حتى ظهر مشروع قومي عربي آخر قاده جمال عبد الناصر، لكنه مني بهزيمة كبيرة سميناها «نكسة» في العام 1967.

المشروعان الأمريكي والروسي على رقعة الشطرنج العالمية هما الأكبر بالطبع، لكنهما ليسا الوحيدين، بل هناك مشروعات إقليمية ووطنية أصغر هنا وهناك، وإن كانت هذه المشروعات تدور إما في فلك أمريكيا أو في فلك روسيا في نهاية المطاف، حتى وإن ظهر أنها مشاريع مستقلة، أو حاول أصحابها ذلك، فلن يستطيعا الإفلات من نظام عالمي تتسيده واشنطن بشكل رئيسي.

انظر إلى خريطة منطقتنا لأرى مشروعات من ذلك القبيل، المشروع الإيراني الخشن الساعي إلى فرض سيطرته خارج حدوده، وقد نجح في ذلك بالفعل في دول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، يقابله المشروع الإسرائيلي وإن كان أقل مساحة جغرافية وأكثر قوة عسكرية وتشبيكات دولية، والمشروع التركي الأقل خشونة، والذي يحاول استعادة أمجاد الدولة العثمانية.

والمشكلة أن تلك المشروعات تتصارع على أرضنا العربية، وتنظر إلينا كمربعات سوداء وبيضاء على رقعة شطرنج يجب بل يسهل التقدم إليها والسيطرة عليها، دون أن نملك مشروعنا الخاص الذي يربط مشرقنا العربي بمغربنا، ويجعل منا قوة إقليمية بل عالمية لا تقهر، ونحن بالطبع لا نريد لها المشروع أن يكون مشروع سيطرة واحتلال، ولا نريد فرض ثقافتنا وطرق عيشنا على أحد، لكن يجب أن نكون أقوياء حتى لا يطمع أحد في فرض سيطرته علينا.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s