مقالي اليوم عن موظف في جمارك البحرين تمنيت أن يكون قدوة لكل الموظفين الحكوميين، وعن موظفين في جهات حكومية مختلفة لا أتمنى أن يكونوا قدوة لأحد.
السبت الماضي وردني اتصال من أحد المديرين في شركتني يقول إن ضابطا في الجمارك بمطار البحرين استوقفته للاستفسار عن جهاز كهربائي بحوزته كنت طلبت منه جلبه لي من دبي، وأن هذا الضابط يسأل عن فاتورة هذا الجهاز للتأكد من عدم خضوعه للضريبة في حال كان سعره 300 دينار بحريني أو أقل.
في الواقع لم أكن أعرف بمسألة فرض ضرائب على نقل الأجهزة الكهربائية ضمن منظومة دول مجلس التعاون، لكني تواصلت مع مكتبي في دبي، ولحسن الحظ أن صورة الفاتورة كانت على جوال الشخص المعني هناك، فأرسلها لي، وكانت أقل من 300 دينار بقليل.
حتى الآن، لا شيء غير اعتيادي فيما سبق، لكن ما هو غير اعتيادي أن ضابط الجمارك ذاته اتصل بي، وقال: دعني أساعدك وأشرح لك ما هي حقوقك وواجباتك مع الجمارك، وتحدث بتركيز حول ذلك، معربا عن سروره بخدمته لي.
بكل صراحة: كم أنا ممتن لهذا الضابط، وكم أسعدني تعامله، لم أشعر بأنه مجرد موظف كفوء جدير بالمهام الموكلة، بل شعرت بمدى فهمه لتفاصيل لعمله، وتفانيه في أداء مهامه، واتقانه لجميع متطلبات تلك المهام، والأهم من كل ذلك إدراكه العميق أن السلطة الممنوحة لا تعني التسلط على الناس، بل مساعدتهم وتسيير أعمالهم.
في صباح اليوم التالي كنت خلف مكتبي في البحرين لمتابعة سير العمل في المشروعات التي نعمل عليها، في العقار والصناعة والضيافة وغيرها، والإجراءات المتعلقة بهذه المشروعات في دوائر حكومية مختلفة، ولا أخفيكم القول، كم تمنيت أن أصادف موظفا في هذه الدائرة الحكومية أو تلك بنفس صفات موظف الجمارك، أو نصف تلك الصفات على الأقل، لكني لم أجد.
أجد في الغالب موظفين يؤدون مهامهم بشكل آلي: هذه النصوص وهذا الإجراءات وكفى، أنا موظف هنا لأطبق القانون وكفى، ولست على استعداد لتقديم أي مساعدة أو مبادرة خارجة عما هو معتاد، ولماذا أفعل ذلك أساسا وهو أمر لن يجلب لي مكافأة أو ترقية من جهة، ويحملني مسؤولية وعواقب قد تكون وخيمة وأنا في غنى عنها من جهة أخرى؟
في الواقع هذه التبريرات مفهومة، لكنها غير مقبولة، ولا تتماشى مع توجيهات سمو ولي العهد رئيس الوزراء حفظه الله في أن يكون الأداء الحكومي مرن، يتفهم احتياجات متلقي الخدمة ويتفاعل معه، وأن تكون القوانين والإجراءات في خدمة العميل، وليس العكس. ونحن في الواقع نرى هذا التوجه في القيادات الحكومية العليا مثل الوزراء والوكلاء والرؤساء التنفيذيين.
لكن مع الأسف، يبدأ الفهم لمعاني هذا التوجيه والتوجه يقل كلما نزلنا إلى أسفل السلم الوظيفي في الجهاز الحكومي، عندما نصطدم بموظف يختلف كل الاختلاف عن موظف الجمارك، يفكر بعقلية الموظف بالفعل، يعطي الأولوية لأداء المهام المطلوبة منه بأقل جهد ممكن، ويشغل باله الراتب وساعات الدوام والإجازة، ولديه الكثير من الوقت ليهدره على الأحاديث العامة والجانبية والواتساب إن لزم الأمر، لكنه وقته ضيق جدا للتفهم متطلبات المتعاملين وتيسير أمورهم.
دعوني أتكلم عن مشروع واحد فقط من مشاريعي، منذ نحو عام اشتريت مشروعا صناعيا متعثرا سأستثمر فيه مبالغ طائلة، ومن المرتقب أن يوظف هذا المشروع عند تشغيله نحو 200 عامل، ويوفر عقودا بالباطن لعشرات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ويساهم في تنمية القطاع الصناعي البحريني، لكني لم أتمكن حتى الآن من البدء بتشغيل هذا المصنع، والسبب أنه في كل يوم يظهر مطلب جديد واشتراط جديد من جهة حكومية مختلفة.
أنا أفهم، وأدعم، كل تلك المتطلبات، لكن لماذا يلقِ الموظف في وجهي تلك الاشتراطات ويذهب؟ أليس من الممكن أن نجلس معا ونفكر في حل للمسألة؟ ألا يمكن أن نتساعد؟ أن ندور الزوايا؟ أن يقدم لي إرشادات مفيدة؟ يدلني على الطريق الأسلم والأكثر اختصارا وجدوى لتلبية الشروط المطلوبة؟
أنا بالطبع سأحقق أرباحا من تشغيل هذا المصنع، وسأمنى بخسائر جراء تعثره، لكن هل أبالغ إذا قلت إن تعثر هذا المصنع ليس شأني أنا وحدي؟ بل شأن البلد ككل بما فيها الموظف الحكومي الذي ييسر أو يعرقل انطلاقة العمل. أليس هذا المصنع جزءا صغيرا أو كبيرا من اقتصاد وطني ككل يتشكل أساسا من إجمالي مصانع ومؤسسات وشركات وغيرها؟ ألا يعطي ذلك مثالا حيا لباقي المستثمرين؟
ليس المقال اليوم عن موظف الجمارك، أو المصنع، وإنما هما مثالين أكتب عنهما، وأدرك تماما أن كثيرا من المستثمرين والمواطنين والمراجعين قابلوا موظف الجمارك في هذه الجهة الحكومية أو تلك، وتعثروا بموظف المصنع في هذه الجهة الحكومية أو تلك، وفي بلد نفطي مثل البحرين يعتبر أداء الجهاز الحكومي هو المحفز والمحرك الأول نحو النمو، لأنه القطاع الخاص لم يصبح بعد بالقوة التي يمكن من خلالها التعويل عليه في قيادة النمو.
لا زالت شركات القطاع الخاص البحريني بشكل عام تعتاش على المشروعات والمناقصات الحكومية، وما تضخه الحكومة في السوق من سيولة عبر كتلة رواتب الموظفين وعبر مشروعات البنية التحتية هو ما يحرك الاقتصاد الوطني، وإطلاق مبادرات تنمية الاقتصاد يتم أساسا عبر جهات حكومية أو شبه حكومية مثل وزارة التجارة ومجلس التنمية الاقتصادية وتمكين، مع إشراك غرفة التجارة في بعض تلك المبادرات.
لقد وافق مجلس الوزراء في جلسته الأسبوع الماضي على مذكرة مجلس الخدمة المدنية بشأن تطوير سياسة الحضور والانصراف في الوزارات والجهات الحكومية وذلك بزيادة مرونة الحضور والانصراف بالجهات الحكومية إلى ثلاث ساعات بما يدعم تحسين الأداء وزيادة الإنتاجية. هذه الموافقة تمثل حلا مبتكرا لمسألة الازدحام في الشوارع، فلم يعد واجبا على جميع الموظفين الذهاب إلى أعمالهم في ساعة واحدة، الثامنة صباحا، والعودة في ساعة واحدة، الثانية بعد الظهر، وإنما تم توزيع بعضهم على مدار ساعات مختلفة.
هذا القرار يعطينا درسا من سمو ولي العهد رئيس الوزراء والحكومة الموقرة بالمرونة، وإمكانية تطوير القوانين والإجراءات بما يخدم المصلحة العامة، حتى ولو كان القرار في البداية خارج عن المألوف، أو يحمل تطبيقه في البداية بعض التحديات، لكن لا شك أن فوائده تفوق بكثير عواقبه.
يمكن استلهام مثل تلك القرارات وتطبيقها على مختلف المستويات، وتدريب الموظفين وتشجيعهم على الاقتراح والمبادرة، ويمكن التوسع في مبادرات نوعية مثل مسابقة الابتكار الحكومي “فكرة”، وأن نرى عددا أكبر من “موظف الجمارك” في مختلف الدوائر الحكومية.