من يفتح النفق؟

المال هو الدم لجسم الاقتصاد، ونقصه يعني عدم نقل الأوكسجين الكافي ليتنفس الاقتصاد، وجموده يعني جلطة أو جلطات هنا أو هناك في شرايين الاقتصاد، لذلك تلعب البنوك المركزية حول العالم دور الطبيب الذي يسعى للحفاظ على تدفق هذه الدماء في جسم الاقتصاد بتوازن، أي دون زيادة تحدث تضخم، أو نقص يحدث نقص تروية، وذلك بما يضمن صحة وسلامة الجسم الاقتصادي وتأديته لمهامه كما يجب.

لكن كبير الأطباء، والقلب المسؤول عن حركة المال في شرايين الاقتصاد العالمي، والمقصود هنا البنك الفيدرالي الأمريكي، يعاني منذ جائحة كورونا في إتمام مهامه بنجاح، حيث ارتفعت معدلات التضخم في كثير من دول العالم إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة سياسة التيسير الكمي التي اتبعها هذا البنك، وعندما عدَّل سياسته بهدف الحد من التضخم وسحب فوائض الأموال من الأسواق أصاب الاقتصاد بالخلل، وما انهيار ثلاثة بنوك أمريكية مؤخرا كردي سويس إلا مثال واضح على ذلك.

والبحرين، المنفتحة على الاقتصاد العالمي، والتي تربط عملتها بالدولار، لم تكن بعيدة عن هذه التطورات العالمية، رغم أن معدلات التضخم لم ترتفع فيها كثيرا كما حدث في معظم دول العالم، إلا أن مستويات السيولة في السوق تأثرت سلبا بسبب العديد من العوامل في نظري، وهي تراجع الإنفاق الحكومي نظرا للرغبة الجادة في تحقيق التوازن المالي، وارتفاع حجم الدين العام البحريني إلى قرابة 17 مليار دينار، والفوائد المترتبة عليه التي بلغت نحو أكثر من 700 مليون دينار العام الماضي فقط، والحاجة المتزايدة للاقتراض بأسعار فائدة مرتفعة.

الحكومة إذًا تريد تحقيق التوازن المالي، وترشيد الإنفاق، فمن يعوض دورها في ضخ الأموال الكافية في السوق؟ القطاع الخاص والبنك تحديدا، لكن البنوك في البحرين ورغم امتلاكها لمستويات سيولة عالية إلا أنها تتشدد في الإقراض، وإن فعلت فهي تأخذ فوائد مرتفعة، ومن الإنصاف القول إن هذا الأمر يحدث على مستوى بنوك المنطقة والعالم أيضا.

في الواقع، نفق السيولة في البحرين يبدو وكأنه مسدود، في هذه الأوقات على الأقل، ودعوني أتحدث من واقع خبرتي في سوق المقاولات كمثال على ذلك، فالكثير من المقاولين يعانون، وقد يفلسون ويخرجون تماما من السوق بسبب عدم التزام أصحاب المشروعات بالدفع، وأصبحت الخلافات بين المقاول والمتعهد وصاحب المشروع ظاهرة في السوق البحريني.

وسيناريو هذه الخلافات واحد تقريبا: تبدأ العلاقة بين المقاول وصاحب المشروع وكأنهما محبين يعقدان خطوبتهما للتو، ويوزعان الابتسامات في كل مكان، ثم تبدأ المشاكل بالظهور عن الانتقال إلى بيت الزوجية، ومع كل مرحلة من مراحل تنفيذ المشروع يظهر خلاف جديد.

وعندما ينهي المقاول عمله ويريد تسليم المشروع واستلام باقي مستحقاته، يبدأ صاحب المشروع باختلاق الذرائع بشأن أن المقاول لم يفِ بالتزاماته، وتأخر هنا، أو قصَّر هناك، والغريب أن هذا الأمر لا يحصل خلال سير المشروع، بل فقط عند المطالبة النهائية، وهو ما يؤدي لوضع المقاول في مأزق مالي يخلق من ورائه مآزق كثيرة لكل من يعمل معه أو لديه من عمال وموظفين وموردين ومقاولين من الباطن وغيرهم.

وفي الغالب لا تنفع جميع محاولات التفاوض وتقريب وجهات النظر بين المقاول وصاحب المشروع، وذلك لأن النوايا السيئة مبيتة منذ البداية، أو لأن صاحب المشروع في ورطة مالية حقيقة، فيلجأ المقاول للمحاكم، وطريق المحاكم طويل كما يعرف الجميع.

نقص السيولة يدفع في بعض الحالات التجار والمقاولين إلى الشيكات مؤجلة الدفع كبديل عن الأموال، لكن هذه الشيكات أثبتت أنها غير عملية وغير مفيدة، خاصة وأن القانون الجديد لا يفرض عقوبات صارمة على صاحب الشيك في حال تخلفه عن الدفع عند الاستحقاق أو حتى كتابته لشيك بدون رصيد.

أنا في الواقع لا أقول إن كل المقاولين ممتازين وكل أصحاب المشروعات سيئين، لكني أتحدث كما قلت من وجهة نظري كمقاول، ولا شك أن هناك أصحاب مشروعات ممتازين مقابل وجود مقاولين ربما يحاولون الغش والتدليس، ويتأخرون في تسليم العمل، ولا يلتزمون بالمواصفات.

لكني أنصح الجميع، خاصة في هذه الأوقات الصعبة، ألا يبدوؤا أي مشروع إذا لم يكونوا يمتلكون التمويل الكافي من مالهم الخاص، أو ما لا يقل عن 80 إلى 90 بالمئة من السيولة اللازمة لتنفيذ المشروع، وألا يعتمدوا في ذلك على الاقتراض، أو التفكير في أنه يمكن سداد المستحقات المالية للمشروع من المال الناتج عن البيع، كأن أفكر في بناء برج، وألزم نفسي بعقود مع مقاولين، وأعتقد أنني سأسدد مستحقات المقاولين من بيع الوحدات السكنية أو المكتبية في هذا البرج.

بعض أصحاب المشروعات يعلمون وفقا لمبدأ «من دهنه سقي له»، بمعنى اقبض المال من المشروع وادفع المستحقات، لكن ماذا إذا لم يكن هناك «دهن» أساسا؟ ربما يصبح المثل «ليس هناك دهن، اذهب إلى السجن». ولكل ذلك أقول، على المستثمر واجبات أساسية بألا يقوم بمشروع ليس لديه تمويل له، وألا يتفاءل أكثر من اللازم، وألا يخاطر، وأن يكون جاهزا لدفع ما استلفه من البنك في الوقت المحدد، وذلك حتى تعود الثقة بين البنوك والتجار بشكل أقوى، وأن تكون جميع المخاطر محسوبة ومدروسة، بحيث لا تشكل أكثر من واحد بالمئة.

أتابع في موضوع سوق المقاولات في البحرين، لأقول إنه ليس في كل الأحيان يكون المقاول أو صاحب المشروع على خطأ، وإنما الظروف العامة للمشروع ذاتها تتسبب في عرقلة تنفيذه، وأتحدث هنا عن المفاجآت التي ربما تظهر عند حفر الأساسات مثلا، أو نتيجة لتأخر الحصول على موافقات البيئة، أو تأخر تزويد المشروع بالكهرباء، وغير ذلك من الأمور الخارجة عن إرادة المعنيين بالمشروع.

عود على بدء، والحديث عن السيولة في البحرين. في الواقع، يمكن القول بشكل مبسط جدا، إن الاقتصاد في دول الخليج يعتمد على قيام الحكومات ببيع النفط، ثم ضخ الأموال الناتجة عن هذا البيع في الاقتصاد عبر قناتين أساسيتين: رواتب ومشروعات. وكلما زادت كتلة الضخ تلك تحرك الاقتصاد ونما بسرعة أكبر، وارتفعت مستويات الرفاهية.

الموظف يستهلك: يأكل ويشرب ويسافر ويدفع أقساط سيارته وبيته ومدرسة أولاده..، فيستفيد صاحب المطعم والمجمع التجاري ومكتب السياحة والسفر والمدرسة، والمقاول الذي يحصل على مناقصة مشروع حكومي يحتفظ بجزء من الأرباح لنفسه لكنه بالتأكيد يوظف ويستأجر مقار ويحرك سيارات ويستهلك قطع غيار وخطوط انتاج..

يجب علينا كحكومة وقطاع خاص أن نجد حلا عمليا لضخ المزيد من السيولة في البحرين، عبر مبادرات مثل «صندوق السيولة»، أو عبر مبادرات أخرى مبتكرة، نتمكن من خلالها من ضخ المزيد من المال في شرايين الاقتصاد، لنضمن صحته وتعافيه.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s