عالم جديد اسمه «شات جي بي تي» أطلعني عليه صديق مقرب لي، دخلت إليه مستكشفًا أسراره وخفاياه، وجلست مذهولاً من إمكانياته الخارقة التي ربما تفوق الخيال، وأدركت أنه يتحتم علينا بكل تأكيد إعادة النظر بالطريقة التي نفكر ونعمل ونعيش حياتنا وفقها.
أول سؤال خطر ببالي أن أسأله لمنصة «شات جي بي تي» هو عني أنا شخصيًا، فكانت الإجابة مدهشة. لقد عرفت المنصة تفاصيل كثيرة غابت عن ذاكرتي أنا. عرفت ساعة ولادتي بالضبط، ووضعت أمامي كل ما قلت وكتبت، وكل ما قيل وكتب عني، وكأن شريط حياتي يمر أمامي.
حصلت على قائمة بكل المراجع التي استخدمتها المنصة لتقديم تلك المعلومات عن حياتي، بما فيها الكتب والصحف وقنوات اليوتيوب، في منهج بحث أكاديمي ربما لا نظير له في أقوى الجامعات والأكاديميات حول العالم. واكتشفت أن «شات جي بي تي» ربما كانت تستطيع أن تكتب كتابي «لم أنتهِ» الذي أصدرته في العام 2019، بعد أن استغرق مني الكثير الكثير من الجهد على مدى خمس سنوات.
طبعًا المنصة ليست محرك بحث شبيه بـغوجل، وإنما هي أقرب لدماغ بشري موسوعي، لديه معرفة ضخمة، ويعيد تركيب وتقديم معلوماته بطريقة منطقية عن كل ما يخطر في بالك من مواضعي، سواء أكانت عن الفضاء أو الطب أو الهندسة أو الصناعات العسكرية أو الشاي بالحليب!.
بعد هذه التجربة المثيرة مع منصة «شات جي بي تي» قررت أن أتعمق في موضوع الذكاء الصناعي والروبوتات البديلة وما إلى هنالك، لأنني أعرف جيدًا أن التقدم للأمام على صعيد الأعمال والحياة يتطلب مواكبة التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها، وإلا وجدت نفسك خارج السباق.
التقدم العلمي يحدث بسرعة رهيبة. زيارة «متحف دبي للصور المتحركة» الذي أسسته هناك بعد أن وضعت فيه معظم مقتنياتي من الكاميرات النادرة تبدأ بكهف يقوم فيه الإنسان الحجري بإشعال نار وتشكيل ظلال جسمه أو يديه على الجدار، واحتاج الأمر لآلاف السنين قبل أن تظهر الرسوم الهيروغليفية، ثم الكتابة المسمارية، وآلاف السنين أيضًا لتظهر الصور السينمائية المتحركة، لتتسارع الابتكارات بعدها ويظهر التلفاز، واليوتيوب، وبرامج التواصل المرئي، وأخيرًا ميتافيرس، والثورة غير المسبوقة التي يقودها الذكاء الصناعي.
ويجب القول هنا إن حياتنا كبشر قبل الذكاء الصناعي ليست كما بعده، ويمكن أن تقرأ الكثير من الرؤى والأفكار لباحثين ومنظرين عن الطريقة التي يبدل فيها الذكاء الصناعي حياتنا، وما هي تأثيراته المرتقبة على مختلف القطاعات، والمهن التي سيقضي عليها بشكل كامل مثل المحاماة وخدمة العملاء، وتلك التي ستزدهر بسببه مثل البرمجة والبيانات.
مع كل اختراع جديد نجد أنفسنا أمام فرص وتحديات جديدة، فعندما بدأت الروبوتات تدخل صناعة السيارات مثلا فإنها أدت بلا شك لتسريح جزء كبير من العمالة في مصانع مرسيدس وبي إم دبليو وتويوتا على سبيل المثال، لكنها أسهمت في ذات الوقت في مضاعفة الإنتاج بأعداد كبيرة تمكن معها الكثير من الناس من ركوب سيارة ما كانوا يحلمون بها لو أن الإنتاج بقي بالطرق التقليدية القديمة.
القنبلة الذرية بحد ذاتها اختراع مرعب جدًا، لا يؤثر على رفع مستويات البطالة أو يجعل معارف وجهود البشر أقل قيمة كما يفعل الذكاء الصناعي، بل يهدد البشرية بأجمعها بالفناء، لكن البشر، بطريقة أو بأخرى تمكنوا من إبقاء هذا الوحش مكبلاً بالأصفاد، لأن الجميع يدرك أن إطلاقه يعني فناء الجميع. وحتى مع تدهور العلاقات بين الدول النووية الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة إبان الحرب في أوكرانيا، فإنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أن أحدًا سيضع يده على الزناد النووي.
على العكس من ذلك، لقد تمكن البشر فيمن تسخير الجانب الإيجابي للطاقة النووية لصالحهم، واستخدامها في توليد الكهرباء، وفي العلوم، وفي الفضاء، والطب. وهذا ما نحتاج إليه بالضبط: لا نخاف من الجديد، بل نسخره لصالح رفاهيتنا ورغد عيشنا.
لكنني أرى أن الفارق الكبير بين تأثير القنبلة النووية، والذكاء الصناعي، هو أن الأولى متاحة فقط لعدد قليل من البشر، من قادة الجيوش والاستخبارات، المدربين والمتخصصين، والقادرين على تحمل هذه المسؤولية، أما الذكاء الصناعي فهو متاح للجميع، بحيث يمكن لأي شخص أن يستخدمه، وهذا ما يجعل أثره أعمل وأشمل وأسرع بكثير.
يمكن للمجرمين وعديمي الأخلاق أيضا استغلال الذكاء الصناعي لصالحهم، ربما يسألونه عن كيفية اختراع قنبلة ذرية، أو تخريب نظام إلكتروني صحي، أو ارتكاب جريمة قتل دون أي أثر، أو ابتزاز مالي، أو تعاطي المخدرات، أو السلب والنهب. وهذا ما يزيد بلا شك من أعباء سلطة إنفاذ القانون ومراقبة فضاء الإنترنت بشكل عام. يذكرني هذا الموضوع بأفلام جيمس بوند التي عادة ما تدور حول شخص شرير يستثمر ذكائه في تشكيل عصابة أو إمبراطورية صغيرة ويهدد بأسلحة كيماوية أو جرثومية أعدادًا كبيرة من البشر، قبل أن يظهر المخلص الشجاع جيمس بوند ويقضي على هذا المجرم ويحل المشكلة.وقد قرأت أن أشخاصا نافذين مثل إليون ماسك طالبوا بإيقاف تطوير تطبيقات الذكاء الصناعي حتى يتسنى للعالم تطوير طرق امتصاص آثارها السلبية، وهو ما يجعل هؤلاء الأشخاص أشبه بجيمس بوند.
الذكاء البشري بات قريبًا جدًا من إيجاد ذكاء صناعي يتفوق عليه، وهنا مكمن الخطر. الخطر أن تخرج الأمور عن سيطرة البشر، ويكون هناك في يوم من الأيام أنظمة وروبوتات تفكر من تلقاء نفسها، فربما تتوصل إلى قرارات ليست في صالحنا نحن كبشر، وسيكون لديها القدرة ليس على الاستغناء عنا، بل ربما إفنائنا أيضا.
هذا السيناريو أشبه بالسرطان الذي هو أساسًا خلايا جسم سلمية تشذ وتنحرف عن المألوف، فتبدأ بالتهام محيطها من الخلايا السليمة، وتستعر أكثر فأكثر حتى تنال من الجسم كله وتتركه جثة هامدة، لتكون النتيجة النهائية أن الدود يلتهم الجميع.
يبدو أن الذكاء الاصطناعي هو الحدود الجديدة للإنسانية، بمجرد عبور هذه الحدود، سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى شكل جديد من الحضارة الإنسانية، ولكن ليس هناك ما يضمن أن يعمل هذا الذكاء وفقًا لنهج إنساني قائم على الدين أو القيم أو الأخلاق.
لدي توجس من الذكاء الصناعي، لكني لست ضده بالتأكيد، وربما أكتب مقالي القادم باستخدام «شات جي بي تي».
لكني آمل بأن نتمكن من إيجاد بروتوكولات جديدة تلزم الأفراد والمجتمعات والمنظمات والدول بالتعامل مع منتجات الذكاء الصناعي بمسؤولية. أن تأخذ خيره وتبعد شره، وأن تبقيه تحت السيطرة، فالسيارة الجميلة السريعة التي لا مكابح فيها لسنا بحاجة إليها.