لا أريد أن أكون حالما أكثر من اللازم، أو مثاليا أكثر من اللازم، ولا أفلاطونيا يعيش في مدينة فاضلة بناها في خياله فقط، فأنا أدرك أن النفس البشرية؛ منذ بدء الخليقة؛ مجبولة على الخير والشر، الحب والكراهية، كما أنه ليس هناك أخيار بالمطلق أو أشرار بالمطلق، وإنما هي سُنَّة الله في خلقه.
ولكن ألا توافقونني الرأي أن العام يصبح شيئا فشيئا مكانا أكثر رهبة وخوفا ورعبا؟ وأن مساحات العيش الآمن تتقلص؟ وأنا أتكلم هنا عن الجغرافية وليس التاريخ، فنظرة على خارطة العالم تؤكد لنا أن مناطق الصراع والنزاع لم تعد محصورة في الشرق الأوسط أو أفريقيا، بل أوروبا أيضا، من كان يصدق أن لندن، وبعد أكثر من سبعين عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية، تعود لتتعرض لتهديد نووي روسي؟
لا أعرف إذا كانت الفطرة السليمة هي الحب أو الكره، الأمن أو القتل، لكن بعد مرور آلاف السنين على تطورنا، يفترض أننا وصلنا إلى مرحلة من النضج لنتعايش مع بضعنا البعض كبشر، لا أن نقتل بعضنا البعض كحيوانات، بل إن الحيوانات لا تقتل عادة أبناء جنسها، وإنما تتجمع في قطعان لتدفئ وتحمي نفسها من الأخطار الخارجية.
كنت أفكر في جذور الكراهية بين الشعوب، بين العرب والإسرائيليين، رغم أنني عندما أصادف يهودا في أوربا أو دبي أو البحرين لا ألمس فيهم كرها للعرب، ولا أشعر في الوقت ذاته برغبة لدي لإيذائهم، فلماذا تتوارث شعوبنا هذه الكراهية؟ ألا يجب أن نستبدل مخاوفنا وشكوننا ببعضنا البعض لتحل محلها الثقة والمصالح المشتركة؟
ما الحل البديل عن ذلك؟ هل سيقضي اليهود على العرب ويقيمون دولتهم من الفرات إلى النيل؟ هل هذا الكلام منطقي وعاقل؟ بالمقابل هل سيقضي العرب على اليهود ويرموهم في البحر؟ هل هذا الشيء منطقي؟ إذا لم يكن أمامنا حل سوى التعايش، لماذا لا نعمل على إعلاء المصلحة والعقل على الاندفاع والعاطفة؟
التاريخ يثبت أنه ما احتلال يستطيع أن يلغي شعبا بأكمله، ولا حتى أن يسيطر عليه ويصهره بشكل كامل، فربما تتمكن دولة من الاستيلاء على دولة أخرى، بشكل كامل أو جزئي لفترة من الزمن تطول أو تقصر، لكن في كثير من الأحيان يتحول الاحتلال إلى عبء كبير على الدولة المحتلة ذاتها، فتبحث عن الخروج بأقل الخسائر وحفظ ماء الوجه.
هذا الشيء نفسه ينطبق على أوروبا، فلقد تجاوزت البشرية مرحلة الحروب التقليدية، واحتلال الأراضي بالقوة العسكرية، حتى حرب العراق وأفغانستان كانتا أكبر درس في التاريخ الحديث حول عدم فعالية الجيوش مهما بلغت قوتها في فرض أمر واقع جديد، وقد قرأت مرة أن الأسلحة النووية كانت نعمة للبشرية، لكن كيف ذلك؟
يقول المفكر صاحب تلك المقولة إن الدول كانت تتحارب كثيرا وتطمع في أراضي بعضها كثيرا، والجيش الأكثر قوة مشغول بالتفكير في التوسع في الدول الأكثر ثروة والأقل قوة، وقد شهدت البشرية حربين مدمرتين في العام 1914 و1939، وحصدتا ملايين الأرواح وتسببتا بدمار وخراب هو الأكبر في التاريخ، وظهرت قوتين متنازعتين هما القوة الأمريكية والقوة السوفيتية، وما منع هاتين القوتين من الصدام هو امتلاك هذين البلدين للسلاح النووي، وعدم تجرؤ أحدهما على الآخر.
لكن ما حدث بعد ذلك هو الحرب الباردة، فتحاربت الدولتين العملاقتين بشكل غير مباشر، في كوريا وفيتنام والشرق الأوسط وكل مكان في العالم تقريبا، حيث اصطدمت الشيوعية بالرأسمالية. وكنا اعتقدنا أن هذه الحرب الباردة توقفت عندما انهار الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي، لكن يبدو أن صعود القوة الروسية مجددا أعاد إشعال النار من تحت الرماد.
المشكلة برأيي تكمن أساسا في القادة الطامحين الطامعين إلى بناء مجد شخصي لهم قبل أن يكون مجدا لأمتهم، والذين يختارون طرق الحرب بدل التنمية، فيخلقون عدوا حقيقيا أو وهميا، كحل مثالي للسيطرة على شعوبهم وصرف أنظارهم عن المشاكل الداخلية ومداعبة خيالهم بالأمجاد والانتصارات.
ما الذي يميز الأوكراني عن الروسي؟ أليسوا أبناء منطقة جغرافية واحدة يتشابهون في كل شيء حتى في الشكل؟ أليس لدى كل منهم أبناء ومستقبل وحاجة إلى الأمن والطمأنينة، وقبل كل ذلك حاجة إلى الحياة؟ لكن كيف يمكن أن يعلو صوت الشعوب على ضجيج أصوات المدافع والطائرات؟
كنت منذ فترة مع صديق فرنسي، سألته: لماذا تكره روسيا؟ أليست روسيا السوفيتية هي من هزمت ألمانيا النازية؟ أجاب بأن الروس عدوانيين ويريدون انتزاع الأرض منا، سألته: وهل يا ترى لديك أصدقاء روس؟ قال طبعا، الكثير منهم، وقد زرت روسيا عدة مرات، وإنها في الواقع بلد حضاري وراقي، ولكنني أخاف منهم.
ألا يمكن أن يجد صديقي الفرنسي مع روس يشاطرونه نفس المخاوف والآمال مساحة مشتركة ينطلقون منها لإزالة مخاوفهم وشكوكهم إزاء بعضهم البعض؟ هل فقدنا قدرتنا كأفراد على التأثير في مجريات الأمور التي تؤثر مباشرة على حياتنا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا؟
أنا مؤمن بأن الله سبحانه وتعالى خلق لنا هذا العالم وفقا لمنطق بسيط، فبعد النهار يأتي الليل، وبعد الليل يأتي النهار، والماء، الذي هو أسهل وألين وأبسط شيء، هو جوهر كل شيء حي، وما أعمارنا على هذه الأرض سوى لحظات لا نكاد ندركها، ومن الطبعي الاختلاف بيننا كبشر، وحتى بيننا كأخوة، وبالتالي ليس علينا أن نفني أنفسنا ونفني غيرنا من أجل ما نعتقد أنه مجد ربما يذكرنا الناس به بعد موتنا وربما لا.
في الواقع، التاريخ بشكل عام صراعات وحروب، وفترات السلام التي عاشتها البشرية لم تكن إلا “استراحة محارب”، أنا أدرك هذا جيدا، فالقوي لا يمكن إلا أن يطمع في الضعيف، أو يتعاطف معه على أبعد تقدير، والشاعر المتنبي يقول “وَالظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ”، لكن آن الآوان الذي يجب أن نرجع فيه جمعيا لمقولة مارتن لوثر كينغ “علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة، أو الفناء معاً كأغبياء”.