منذ طفولتي يلازمني شعور بالفخر والاعتزاز بأختاي، أمل وبارعة، كأي إنسان يحب عائلته ويحق له الفخر بها، وبمرور كل تلك السنوات، لا زلنا أولئك الأطفال في ذلك البيت الجميل، حيث ترعرعنا سوية، ولا زلنا نتلهف لرؤية بعضنا البعض، ونشعر أن كل واحد فينا بحاجة لعطف وحنان ودعم أخوته.
ما من شك أن الجميع يولدون في أسرة واحدة ولكن بميول مختلفة ربما، فأختي أمل كانت دائمًا تحب الأسرة والاستقرار، بمعنى آخر «ست بيت»، خلافًا لي ولأختي بارعة، حيث كنا ولا زلنا مغامرين باحثين عن التميز والمجد والنجاح، واعتقد أن كل واحد فينا حقق ما أراد، أو على الأقل راضٍ بما حققه.
في الواقع توفيت أمي رحمها الله وأنا بعمر الـ16 عامًا، وأختاي أصغر مني، وربما يكون هذا الأمر ما زاد من تلاحمنا وتعاطفنا كأسرة، فضلاً عن أن أمي زرعت فينا حب التعليم وصقلت ذواتنا على حب التفكير والثقافة والعطاء، وقد تحملنا المسؤولية صغارًا، بل في كثير من الأحيان كنت أشعر أني الأخ الأكبر الذي ينهض ببعض من مهام الأب أيضًا.
كانت بارعة دائمًا تسألني وتحاورني، تريد أن تعرف أسرار الأمور وخباياها، وبرأسها الكثير من الأسئلة بعضها استطعت أن أجيب عليه والبعض الآخر أجاب عليه الزمن، فالمعرفة تأتي من الفضول، ولم تكن ترتاح حتى تحصل على جواب، لتعود في اليوم حاملة أسئلة أكبر وأكثر.
كبرنا وأخذ كل منا طريقه، أنا دخلت في عالم الأعمال، بينما بارعة دخلت عالم الصحافة من أوسع أبوابها، وتبنتها دار الصياد وبالتحديد الأستاذ سعيد فريحة، وبدأت تتألق يومًا بعد يوم، ولعل أهم ما أذكره أنه في كذبة أبريل في العام 1969 ظهرت بارعة على تلفزيون لبنان لتفاجئ المشاهدين بخبر قبولها الزواج من الفكاهي المشهور حينها نجيب حنكش، والذي كان يكبرها بما يزيد عن أربعين عامًا، حينها اتصل والدي بي يوبخني «كيف بتقبل»، قلت له «بابا.. هذه كذبة نيسان»، وضحك أبي وضحك معه لبنان، فيما بارعة حجزت لنفسها مكانة متقدمة كشابة واعدة، ووضعت أول خطوة على طريق الشهرة التي لا زالت تكبر حتى يومنا هذا.
من بين كل المشاهير الذين طلبوا ود بارعة وقع اختيارها على رمزي علم الدين، وهو من أول من أسس شركات سياحة وسفر واشتهر بها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عائلتنا كانت ولا زالت علمانية تؤمن بالله وبالإنسانية، وأنه لا يميز الناس عن بعضها إلا أعمالها الخيرة.
بالنسبة لي «بارعة» اسم على مسمى بالفعل، نجمها يعلو يومًا بعد يوم في حقل الصحافة والأدب حتى تمكنت من التربع على عرش صحافة المشاهير، وقد اختارت الإعلام والصحافة عن حب وشغف لا زال يتقد بداخلها حتى اليوم، وأذكر أننا كنا في قبرص بحفل زواجها وطلبت موعدًا مع الأسقف الشهير مكاريوس الثالث وأجرت معه مقابلة صحفية!.
في الواقع أجرت بارعة خلال مسيرتها المهنية مقابلات مع أشهر شخصيات العالم ومن بينهم فيديل كاسترو، كما كانت آخر صحفية تجري مقابلة مع أنديرا غاندي قبل يوم واحد من حادثة اغتيالها الشهيرة في الهند، وعلى قائمة أصدقائها الطويلة شخصيات كبيرة مثل غازي القصيبي وسليم الحص والعديد من كبار رؤساء الدول.
بعض من تلك الذكريات نتبادلها أنا وأختي، الصحفية بارعة علم الدين مكناس، كلما زارتني هنا في البحرين، للمشاركة في فعالية كبرى أو حدث مهم، أو لمجرد إجازة سريعة، وهي تزور البحرين هذه الأيام، حيث شاركت في حوار المنامة، ولبت وتلبي دعوات أخرى، ثقافية وأدبية وغيرها.
وقد استثمرت بارعة هذه الزيارة أيضًا للتعريف بكتابها الجديد «الحشد الشعبي»، الذي أفرد له ما تبقى من هذا المقال، خاصة وأنها أظهرت شجاعة كبيرة في التصدي لهذا الموضوع المهم والمتشعب والخطير لدى إعدادها هذا الكتاب، حتى أنها باتت واحدة من أهم الخبراء على مستوى العالم في شؤون الميليشيات المدعومة من إيران.
تشير بارعة في كتابها إلى أن الحشد الشعبي في العراق بات يسيطر على البلاد عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وأيديولوجيًا. فالحشد الذي جاء إلى حيّز الوجود في سياق مواجهة ما بعد 2014 مع داعش، يضم التحالف ميليشيات مثل كتائب بدر، التي شكلتها إيران ما بعد الثورة خلال الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، لكن منذ عام 2017، طرد الحشد الشعبي ميليشيات البشمركة الكردية من وسط العراق بعد سقوط داعش وهيمن على جميع مستويات المجتمع في هذه المناطق.
وتؤكد أن ميليشيات الحشد الشعبي تهيمن أيضًا على العراق سياسيًا، على مستوى وسط بغداد من خلال إغراق وزارات معينة ومواقع رئيسية بحلفاء من الميليشيات، وعلى مستوى المحافظات أيضًا، كما تهيمن الميليشيات أيديولوجيًا على قطاع التعليم فضلاً عن سعيها للسيطرة على المؤسسات الثقافية والدينية في العراق.
ووفقًا للكتاب، كانت هناك أيضا الهيمنة الاقتصادية بعد أن استغل قادة الميليشيات هيمنتهم العسكرية لتحقيق أرباح مالية هائلة، وتشير بارعة أيضًا أنه بالنسبة لإيران، كان إنشاء الحشد الشعبي كقوة برعاية الدولة إنجازًا رائعًا لأنه بدلاً من الاضطرار إلى تمويل هذه الجماعات، حيث يتم الآن تمويل هذه القوات بنحو 2 مليار دولار سنويًا من قبل الدولة العراقية بطريقة أو بأخرى. بارعة تؤكد أن هذه المدعومة من إيران في العراق تذكرنا بشكل مروّع بما حدث في بلدي الأم لبنان تحت حكم حزب الله، وهذا يحدث أيضًا في سوريا واليمن، أينما كانت هذه الميليشيات، وتذكر في كتابها أن الدروس التي يجب أن نتعلمها من الصراعات في أوكرانيا والعراق وسوريا هي أن السيادة والحرية وسلامة الأراضي والقانون الدولي ليست سمات طبيعية تسود تلقائيًا، بل مبادئ أساسية يجب النضال من أجلها والتي يُظهر الملايين من المواطنين المحبين للسلام حاليًا استعدادهم للموت من أجلها والدفاع عنها.
الكتاب صدر باللغة الإنكليزية كونه عالمي الطابع، ويتم العمل الآن على إعداد نسخة عربية منه، حتى يكون متاحًا على نطاق أوسع، ومرجعًا موثوقًا لكل المهتمين بالدفاع عن عروبة واستقرار منطقتنا.