إذا عرف السبب بطل العجب

استغرب جدا الغضب الأمريكي على السعودية، الحليف والشريك الاستراتيجي التاريخي في المنطقة. هذا الموقف الذي يؤكد مرة أخرى أن الإدارة الأمريكية ما زالت تتبنى منطق «من ليس معنا فهو ضدنا»، وتتوقع، بل وتطلب وتفرض على شركائها أن يفكروا في مصلحتها قبل مصلحتهم، ويخدموا أهدافها لا أهدافهم، ويضحوا من أجلها دون أن يتوقعوا منها أن تبادلهم بالمثل.

هذا المنطق بصراحة عجيب غريب، منطق القوة والغطرسة وليس الحجة والإقناع، وكل من يخالفها الرأي أو التوجه يجب أن ينبذ ويعاقب، وهذا الأمر خطر جدا حتى على أمريكا ذاتها، والتي يجب عليها أن تدرك أنه خلال العقود الماضية كانت محط إعجاب وتقدير حلفائها لما تملكه من تطور علمي وطبي واقتصادي وتقني، ولمبادئها ذات الصلة بالحرية والعدالة والديموقراطية، أما اليوم فبات مطلوبا من الحلفاء أن يقفوا في صف أمريكا ليس حبا بها وإنما خوفا منها.

في الحقيقة لم تعد الولايات المتحدة سيدة العالم لأنها نموذجا يحتذى في الحكم الرشيد، والبلد الذي تطلع دول العالم لأن تحذوا حذوه في التطور والحداثة، ولم تعد الجامعات هي معالم القوة الأمريكية، بل الأساطيل العسكرية التي تجوب بحار العالم وتهدد كل من يتعرض طريقها، والدولار الذي كان محل تقدير وإعجاب كل تاجر ومواطن حول العالم بات عصا تهديد اقتصادي بيد الولايات المتحدة تستخدمه كأداة للعقوبات الاقتصادية، كما لم يعد دور أجهزة الأمن والمخابرات والفكر الأمريكية حفظ الأمن العالمي وتحقيق العدالة والرفاهية للإنسان، بل الدفاع عن مصالح أمريكا حتى لو كان الثمن إهدار دماء الأبرياء أينما كانوا حول العالم.

لعقود طويلة كنا نغض الطرف عن المواقف الأمريكية المخزية تجاه قضايانا العادلة. الولايات المتحدة دخلت من أجل حلفائها الأوروبيين الحرب العالمية الأولى والثانية، ومدته بأموال طائلة في إطار «مشروع مارشال» بعد تلك الحرب بهدف إعادة الإعمار، وبنت من أجله حلف الناتو، واعتبرت حدودها هي حدود الناتو. أما نحن العرب فأفضل ما أخذنا منها هو الحيادية والكلام المعسول والوعود، بل والعداء في مثير من المواقف، وخسرنا فلسطين والعراق وها نحن نخسر اليمن ولبنان، الذي كان يسمى في وقت من الأوقات سويسرا الشرق.

لقد كان الموقف السعودي، والخليجي بشكل عام من الحرب في أوكرانيا رصينا متزنا، بل ولعب السعودية تحديدا دورا مهما بين روسيا وأوكرانيا من خلال تبادل الأسرى بين الجانبين، في خطوة يمكن البناء عليها. إن موقف السعودية وموقف الخليج واضح: سعادة الجميع والسلام للجميع.

هذا الموقف ليس جديدا على السياسية السعودية والخليجية، فدول الخليج العربي لا تريد الاعتداء على أحد، ولا تضع التوسع وفرض الهيمنة ضمن أجندتها السياسية، فعندما نحلل الموقف الخليجي من إيران مثلا خلال العقود الماضية، لا نرى أن دول الخليج عملت أو تعمل على التدخل في الشؤون الإيرانية الداخلية، وإنما تريد أن تكف إيران بلاها وتوقف دعمها للمليشيات الطائفية والتخريبيين خارج حدودها، ليس إلا.

كذلك الموقف السعودي تجاه إسرائيل، والذي ظهر جليا بمبادرة الملك عبدالله طيب الله ثراه تجاه حل الدولتين، والعيش بسلام، ووقف الاعتداءات وإراقة الدماء، وعندما تقبل إسرائيل بهذه المبادرة، ستدخل بوابة التعاون الاقتصادي والعلمي والحضاري مع السعودية بشكل متكافئ وطبيعي.

وفي هذا الإطار، يمكن التأكيد على أن قرار السعودية ذي الصلة بإنتاج النفط ضمن منظومة أوبك+ منطقي ومبرر وعقلاني وقائم على المصلحة السعودية، والمراعاة الكبيرة للوضع في أوروبا والعالم. نحن جميعا أصدقاء للولايات المتحدة وأوروبا لكن لدينا في الوقت ذاته مصالحنا، وعلى الجميع أن يتفهم ذلك.

والسعودية محقة في رفضها الانتقادات الموجهة لقرار أوبك+ بخفض إنتاج النفط بمليوني برميل يوميا اعتباراً من نوفمبر، حيث إن مخرجات اجتماعات أوبك+ يتم تبنيها من خلال التوافق الجماعي من الدول الأعضاء ولا تنفرد فيه دولة دون باقي الدول الأعضاء، ومن منظور اقتصادي بحت يراعي توازن العرض والطلب في الأسواق البترولية ويحد من التقلبات التي لا تخدم مصالح المنتجين والمستهلكين على حد سواء، وهو ما دأبت عليه مجموعة أوبك+ 

لا أشك بقوة الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا واقتصاديا وسياسيا، لكن لا اعتقد أننا يجب أن نأخذ تهديدات إدارة بايدن للسعودية على محمل الجد، حيث أن الرجل حضر قمة جدة قبل فترة، واستمع بأذنه كلاما يؤكد أن السعودية ترى أن انتاج النفط حاليا كاف ولا حاجة لزيادته، ولم يحرك ساكنا حينها، لكن ما يدفع عددا من أركان إدارته حاليا لإصدار تلك التهديدات هو أننا أصبحنا على بعد أسابيع قليلة من انتخابات مهمة ستحدد ملامح المدة المتبقية من ولايته، كما أن احتجاجات الأمريكيين على غلاء البنزين تتصاعد، ولا بد من احتوائها بشكل أو بآخر.

ما رأيكم بمن يقول إن قرار أوبك+ بعدم زيادة إنتاج النفط هو في مصلحة أمريكا وليس ضدها؟ ألا يرفع هذا القرار من أسعار النفط في وقت تعتبر فيها الولايات المتحدة من أكبر دول العالم تصديرا لهذه المادة؟ ثم ما رأيكم يذهب أبعد من ذلك ليقول إن من مصلحة أمريكا بقاء أوروبا ضعيفة حتى تسهل قيادتها والضغط عليها وانتزاع المواقف منها، تماما كما أن استمرار الحرب الأوكرانية واستنزاف أوروبا وروسيا سويةً يحقق مصالح واشنطن بلا شك.

لم نعد أطفالا في السياسة، ونحن ندرك أن ما يحرك أمريكا هو مصلحتها، فالبراغماتية هي الأساس الذي يحدد اتجاه بوصلة السياسة الأمريكية، حتى أن هناك من قال «المتغطي بأمريكا بردان»، في إشارة إلى سهولة تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها عندما تشعر أن مصلحتها لم تعد معهم. لكننا، كنا ولا زلنا نعتقد أن لدينا صديق ودود يساعدنا ويتفهم مواقفنا.

ولا أستطيع أن أفكر أننا سنقبل بعد الآن أن نكون مستعمرين أو مستعبدين من أحد، كما أننا لا نريد أن نستعمر أو نستعبد أحد. نريد أن نعيش بكرامة وسلام، وأن نحافظ على مصالحنا الوطنية ومصالح شعوبنا في التنمية والرفاهية.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s