أنا اليوم أؤمن أكثر من أي وقت مضى أن الخطابات الجياشة الرنانة وفحواها من الكلمات والعبارات والشعارات الكبيرة ليست إلا حقن تخدير كبيرة للشعوب، لا تحرر أرضا أو تبني مستقبلا أو حتى تطعم جائعا، وأصحاب تلك الخطابات يدركون ذلك أيضا، لكنهم يعملون بخبث ودهاء على ابتكار مزيد من خطابات الشحن والتجييش من أجل مواصلة السيطرة على عقول الناس واستلاب إرادتهم من خلال بيعهم أحلاما في الهواء، وإقناعهم بأن الفقر والعوز والموت هو قدرهم المحتوم في سبيل «النصر الإلهي» المنتظر.
«الشيطان الأكبر»، «الموت لأمريكا»، «الموت لإسرائيل» مثال واضح عن تلك الخطابات والشعارات، لكن ماذا حدث بعد أكثر من أربعين عاما على رفع الثورة الإيرانية لها؟ لا شيء، مزيد من الفقر والقهر للشعب الإيراني، والتسلط والنفوذ للملالي، وهدر الموارد على التسلح والجيش والمناورات والميليشيات، ومستقبل أكثر قتامة لبلد بأكمله، بلد لو لم يحكمه الملالي لكان الآن مساهما في نهضة العالم نظرا لإمكاناته البشرية والاقتصادية الهائلة، بدلا من أن يكون منصة شرور، وعالة على العالم بأسره.
في الواقع، شعار واحد أخلص له قادة الثورة الإيرانية ولا يزالون رغم نفيهم له، وهو «تصدير الثورة». لا يدخرون أي جهد من أجل في التدخل في جيرانهم، ولا بد أن نقر أنهم نجحوا في ذلك، في العراق واليمن وسوريا ولبنان، حيث ينشرون ميليشياتهم ويقبضون على الدولة بقوة السلاح والأمر الواقع، وباتت دولا فاشلة بامتياز. وربما أفهم وأبرر حرص ملالي إيران على تطويع الدول التي يصدرون ثورتهم إليها، لكن ما لا أستطيع أن أفهمه هو لماذا يصرون على تفقير وإذلال شعوبها؟
لقد بات من الواضح أنه بعد أكثر من أربعين عاما من الحكم الثورجي لإيران، إن الثورة في هذا البلد أتت لتقهر الإيرانيين وليس لإنقاذهم، والإيرانيون أصبحوا شبه مجمعين، سرا أو علنا، بأن نظام حكمهم الحالي قادهم إلى أوضاع معيشية أكثر ترديا من أيام حكم الشاه، كما أنه أكثر قمعا وقسوة بعد أن فقط أدوات حكمه ما عدا استخدام القوة المفرطة في وجه الشعب المطالب بحريته وحقوقه، يحكم من خلال عناصر الشرطة والأمن والباسيج وليس من خلال التنوير والتعليم والرفاهية. أعتقد أن كثيرا من الإيرانيين يترحمون اليوم على أيام الشاه.
الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، وها هي الحكومة اللبنانية بمشاركة ورضا حزب الله تمضي قدما، وبوساطة أمريكية، في اتفاقيات تقاسم الغاز مع إسرائيل. طبعا أنا مع توقيع هذه الاتفاقيات شرط أن تحفظ حقوق اللبنانيين في ثرواتهم الطبيعية، لكني أكاد أشفق على حزب الله الذي ملأ وسائل الإعلام التابعة له صراخا ووعيدا وتهديدا لإسرائيل إذا فكرت مجرد تفكير بالاقتراب من المياه الإقليمية اللبنانية، وأنها ستدفع ثمنا غاليا إن بدأت بتطوير حقل الغاز وإنتاجه قبل لبنان. وكأني أقول لحزب الله ومن خلفه إيران: «أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك أبكي».
لماذا ضحينا بكل هذه السنوات من عمر الإنسان في المنطقة سواء كان عربيا أو فارسيا، وما هي النتيجة التي أوصلنا إليها قادة إيران؟ لقد كانت إيران قبلهم منبرا للحضارة والفكر والابداع والاختراع، لكن الثورة اخترعت لنا أمورا أخرى، أمورا شيطانية لا تفهم الاستقرار، وتنبذ السلام، لأنها تدرك تماما أن السلام سيجلب نهايتها.
هل يريد ملالي إيران حماية دين الإسلام والدفاع عنه ونشره؟ في الواقع إن ما تحقق هو العكس. لقد أعطوا أسوأ صورة ممكنة عن الدين، خاصة عندما يدخل رجاله في السياسة، فها هي العراق بعد أكثر من عشرين عاما لا تستطيع تأليف حكومة قوية نتيجة تشرذم الأحزاب الدينية التي تسيطر على المشهد السياسي وأصوات الناخبين، وفي اليمن يهتف الحوثي المدعوم من إيران أيضا: الموت لأمريكا الموت لإسرائيل، ويحكم باسم الدين، لكن البلاد والعباد في أسوأ أوضاعها. هل تتخيل النتيجة التي يخرج بها بريطاني أو استرالي يتابع ويحلل المشهد السياسي في العراق أو اليمن حاليا؟
أنا استغرب كيف يستطيع رجل دين أن يقدم على ارتكاب جرائم بيده، أو يعطي أوامر بارتكاب هذه الجرائم أو يخفي ما يتم ارتكابه من جرائم. رجل الدين يجب أن يكون قدوة ليس لاتباعه فقط، بل للإنسانية جمعاء، ووظيفته أن يكون وسيلة تقريب الإنسان إلى الله تعالى الذي يأمر بالتعاون والأخوة والمحبة وإعمار الأرض وحقن الدماء وإشاعة السلام.
الثورة التي تشهدها إيران حاليا هي الثورة الحقيقة، ثورة الحرية، ثورة الإرادة الحرة للإنسان، ثورة الاستقلال عن قوة الشر والظلام التي تخنق الإنسان عندما تحدد له ماذا يلبس وماذا يأكل، بل وماذا يقول. كما أنه لا يمكن حصر الثورة التي تشهدها إيران حاليا داخل حدود إيران، فالمتابع يرى الأمر نفسه يتكرر في العراق، وفي لبنان، ومناطق أخرى، فالشعوب في هذه الدول متحدة في مطالبها ضد النظام الذي يحكمها، نظام الملالي. لقد سمعنا بوضوح هتافات العراقيين في الساحات: إيران برا برا.
لا يمكنني الحديث عن خيانة الشعارات والمبادئ والقيم دون الإشارة أيضا إلى سياسة الكيل بمكيالين التي يتبعها الغرب تجاه قضايانا، فيقف بكل قوته مع أوكرانيا بدافع الحفاظ على استقلاليتها وسيادتها وحريتها وحق شعبها في الحرية والكرامة، ويترك الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال والتوسع الاستيطاني الإسرائيلي دون القيام سوى ببعض الشجب والتنديد الذي لا يسمن ولا يغني عن جوع.
نحن كعرب، نتحدث لغة واحدة ويجمعنا تاريخ مشترك ومصير واحد، علينا أن نكون أكثر التفافا حول بعضنا البعض، نمد يد السلام والتعاون لمن يريد الخير لنا، ونقف في وجه الطامعين، كائنا من كان؛ إيرانيون أو أتراك أو روس أو أمريكيون أو أوربيون، وها هي دول الخليج العربي تقدم نموذجا للتطور والرقي والحفاظ على العروبة والإسلام، وتمد يدها لمصر ولغيرها من الدول العربية دون أن تفرض شروطا وتدخلات، وأرى أن دول الخليج العربي بقيادة السعودية مرشحة لقيادة نهضة عربية شاملة، وعلى باقي العرب أن يضعوا يدهم بيدها ويتخلون عن ارتباطاتهم بأعداء الأمة.