لم يحدث في تاريخ العالم أن تأثرت شعوب المملكة المتحدة ومعهم الكومنولث والعالم بأجمعه على النحو الذي شهدناه لدى وفاة الملكة إليزابيث الثانية، ويكفي أن نشير إلى أن البث التلفزيوني لجنازة الراحلة حظي بمتابعة نحو أربع مليارات شخص حول العالم، أي أكثر من نصف سكان العالم، مع الانتباه إلى أن كثيرين من النصف الآخر ليس لديهم تلفزيون أو كهرباء أساسًا.
لقد مات الكثير من الزعماء الذين تمتعوا خلال حياتهم بصلاحيات تنفيذية واسعة جدًا، أو شبه مطلقة، بما فيها قيادة الجيوش في المعارك، واستخدام الأسلحة النووية، وقلب المجتمعات رأسًا على عقب، أمثال ستالين وماوتسي تونج وحتى فرانكلين وروزفليت وتشرشل، ولكنهم رغم قوتهم الخشنة لم يحظوا بالاهتمام الذي حظيت به الشابة الرقيقة إليزابيث التي اعتلت العرش بعمر الـ 25 عامًا واتسمت شخصيتها بالهدوء والأنثوية.
الموت هو المصير المحتوم لكل حي، وما يبقى هو الأثر، وموت الملكة إليزابيث فتح الباب أمام إلقاء الكثير من الأضواء على مسيرتها الحافلة الطويلة، ولا أخفي أن إعجابي زاد بها وبشخصيتها وخصالها، وخاصة قدرتها على معرفة الأخطاء وتجنب الوقوع فيها، وكيفية معالجتها للملفات الكبرى بهدوء وخروجها من التحديات بنجاح.
منذ كانت في الرابعة عشرة من عمرها أرسلت رسالة لمختلف الأطفال في الدول التابعة للتاج البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، وبطريقة ساحرة نقلت إليهم جرعة من الجرأة والقوة والتحدي والإصرار على الانتصار في هذه الحرب التي كانت بريطانيا هدفا أساسيا لها. لقد تحملت إليزابيث بسرعة المسؤوليات الملكية، وخلال الحرب العالمية الثانية ورغم تعرض المملكة المتحدة للقصف الألماني، رفضت العائلة الملكية الانتقال للعيش في الخارج إذ بقي والدها الملك وزوجته في قصر باكنغهام، وساهمت حينها مع شقيقتها الصغرى مارغريت في المجهود الحربي بحياكة الجوارب أو صنع الضمادات للجنود البريطانيين.
بعد يومين من وفاة والدها، الملك جورج السادس، أدلت الملكة الشابة بتصريحها الأول أمام المجلس الخاص: «بوفاة والدي العزيز المفاجئة، تمت دعوتي لتولي واجبات الملك. أدعو الرب أن يعينني لأكون جديرة بالمهام التي أوكلت إليّ مبكرًا في حياتي»، وهي مهام لم تفشل فيها أبدا. تم تتويجها في العام 1953 في دير وستمنستر في مراسم احتفالية تم نقلها مباشرة عبر الإذاعة والتلفزيون، وهو إنجاز تقني كان الأول من نوعه، وأكدت الملكة إليزابيث خلالها أنها لن تتنازل عن العرش أبدًا، «ما لم أتعرض لهجوم أو أصب بمرض الزهايمر»، وهذا ما كان بالفعل.
وقد عرفت منذ ذلك الحين كيف تظهر نفسها بالحكيمة الصغيرة وكانت كل كلماتها وتصرفاتها موزونة وعقلانية ومسؤولة، وأعطت الناس في ذلك الوقت شعورًا بالاطمئنان بأن هناك من يحفظ تاريخهم ويساندهم. كان مجرد ظهورها على التلفاز وفي الأماكن العامة يذكر الناس بأمجاد بريطانيا العظمى، ويمنحهم الحافز على الصمود والعمل وتخطي الصعاب.
إليزابيث، التي رحلت بعد حياة ملكية حافلة كانت لها بصمتها الخاصة على تاريخ العرش البريطاني، كانت ملكة 15 دولة ورئيسة منظمة الكومنولث التي تضم 56 بلدًا. ملكة أحبها شعبها واحترمها قادة الدول والحكومات في العالم أجمع. ملكة قضت أطول فترة حكم في تاريخ المملكة البريطانية، عرفت خلالها كيف تجعل التاج البريطاني مواكبًا للعصر وتعيد له تألقه، تاركة للورثة ملكية أكثر حيوية من أي وقت مضى. وعلى المستوى الدولي، حافظت إليزابيث الثانية على دور رمزي لكنه مهم جدا، إذ إنها حكمت أكبر مملكة في العالم وخضع لسلطتها نحو 135 مليون شخص.
ورغم عدم تمتعها بأية صلاحيات تنفيذية، إلا أنها استطاعت أن تثبت أنه لا يمكن الاستغناء عنها، وعن الملكية، وأثبتت مقدرة كبيرة جدا على مجاراة تطورات العصر الحديث بما فيها الديمقراطية والأزياء دون التخلي عن روح الملكية البريطانية بما فيها التاج والقلاع والمناسبات العائلية، واستطاعت بذلك أن تخلق توازنا بين الحاضر الجديد والملكية المتوارثة من آلاف السنين.
وحافظت على نهجها ومبادئها بإخلاص، ولم تنجرف خلف بريق السلطة، ولم تحاول تحقيق مكاسب سياسية وتوسعة نفوذها رغم وجود رؤساء وزراء وحكومات لم تنجح في إدارة شؤون البلاد، وأبت على نفسها الدخول في معترك السياسية، وبقيت المرجعية في كل شيء، وكانت تعلم كيف تضع الأمور في نصابها، وأين الصواب وأين الخطأ، لكنها لم تدخل في صدام أو موجهة مع السياسيين البريطانيين، وأعتقد أن الديمقراطية والملكية في العالم كله استفادت من مقدرتها وحكمتها.
لقد عاصرت إليزابيث الثانية تفكك الإمبراطورية البريطانية، وعرف عهدها 15 رئيس حكومة في المملكة، محافظة على الدوام على ترفعها عن النزاعات السياسية. «دائمًا ملتزمة، دائمًا مصممة، دائما محترمة، وتمثل الحكمة والاستمرارية»، على حد وصف رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون لها في 2012 في خطاب تكريمي وجهه بمناسبة اليوبيل الماسي (مرور 60 عامًا) لتوليها مهام الملكة.
ولم تكن إليزابيث الزوجة التي تصنع المشاكل، واستمر زواجها مستقرًا منذ العام 1947 حتى وفاة زوجها الأمير فيليب اليوناني في العام 2021، بعد أكثر من 73 عامًا من الزواج، وتمكنت من تجاوز هزات عديدة زعزعت حياتها الخاصة، على رأسها طلاق ثلاثة من أولادها، وهو ما نال من صورة العائلة الملكية التي تتابعها وسائل الإعلام باستمرار، لكن ثبات الملكة أكسبها دائمًا احترام شعبها. وحتى عندما توفيت الأميرة ديانا، الزوجة السابقة للأمير تشارلز، في العام 1997 تمكنت الملكة من ردم الشرخ الذي كاد يحدث مع الشعب البريطاني، واحتفت في كلمة متلفزة «بأميرة الشعب» ما جعلها تستعيد تقدير البريطانيين.
لا يمكن إخفاء حقيقة أن بريطانيا شنت حروبًا عديدة خلال عهد الملكة إليزابيث، بما فيها العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحرب العراق الأولى والثانية، لكنها لم تكن حروب إليزابيث بقدر ما هي حروب الحكومات البريطانية، بل إن هناك من يقول لو كان قرار الحرب بيدها لما اتخذته على الإطلاق.
لكن ماذا لو حافظنا في دولنا العربية في مصر والعراق والسودان وسوريا وغيرها على الملكية؟ على الملك فاروق والملك فيصل وغيرهما؟ ألم يكن ذلك أفضل لنا؟ ألم تثبت الأنظمة الملكية على تنوعها أنها ضامن للاستقرار والازدهار، فيما لم تحمل الثورات والانقلابات التي قادها العسكر سوى الحروب والسجون والتخلف تحت شعارات رنانة لم تسمن ولم تغنِ عن جوع؟