لمــــــاذا أوروبـــــا؟

ارتفاع في الأسعار، وموجات حر، وقلق من تمدد الحرب، هي بعض المظاهر التي تعيشها بلدان القارة الأوروبية هذه الأيام. لكن الناس هنا في أوروبا، أو في الدول التي زرتها حتى الآن على الأقل: إيطاليا وبريطانيا وألمانيا، يحاولون التغلب على مخاوفهم والاستمتاع بإجازة الصيف ما استطاعوا.

وعلى غير العادة، تكاد أوروبا تخلو من السياح العرب هذا الصيف، كما أن السياحية الداخلية تأثرت، فالأوربيين لديهم تخوف بشأن صعوبة الشتاء القادم نتيجة نقص إمدادات الغاز الروسية والأثر السلبي لذلك ليس على التدفئة فقط، بل على فرص العمل وحركة الاقتصاد بشكل عام، وقد زرت في ألمانيا واحدا من أشهر معامل البورسلان في العالم، عمره أكثر من مئتي عام، إلا أن انتاجه مهدد بالتوقف بسبب نقص الغاز.

مخاوف الأوروبيين تلك هي قطرة في بحر مخاوفنا نحن العرب، فنحن نأتي لى أوروبا محملين بهموم أوطاننا، لبنان وسوريا والعراق وفلسطين واليمن وتونس وليبيا..، بل وتشغل بالنا القضايا العالمية وكأننا دبلوماسيون كبار أو جنرالات حرب، ننام ونصحو ونحن نفكر في مألات الحرب الروسية في أوكرانيا والاحتكاك الأمريكي الصيني بشأن تايوان، وتعطل سلاسل الإمداد، بل وتسارع ذوبان الجليد في القطب المتجمد الشمالي!

لا يشغل بالنا الحاضر فقط، بل الماضي أيضا، سواء بعض الأحداث الكبرى التي جرت قبل نحو 1400 عام، بما فيها معركة الجمل ووقعة الحرَّة وغيرها، أو في تلك القريبة مثل هل كان عبد الناصر أفضل لمصر أو الملك فاروق، وهل كان عهد صدام حسين أفضل من العهد الحالي بالنسبة للعراقيين، وهل الكتاب الأخضر للقذافي على تفاهته أفضل من الدستور الليبي الحالي الذي يبدو أن لا قيمة له.

وكأننا كعرب نرفض واقعنا الراهن من ضعف وهوان وتفتت وتشتت، ونريد إيجاد شيء نفاخر به في نقاشاتنا مع الأوربيين، فنذهب إلى الماضي للبحث عن إشراقة هنا أو هناك، فنرهق أنفسنا بما لا طاقة لنا به، فيما الأوربيين والأمريكيين أيضا تصالحوا مع تاريخهم، ومع بعضهم، ومع أنفسهم، واستفادوا من أخطاء وويلات الماضي في بناء مستقبل أفضل لهم وللأجيال اللاحقة من بعدهم.

في إيطاليا اتيحت لي فرصة اللقاء برجل مثقف، سألته عن اعتقاده بشأن الحرب الروسية من جهة الأوكرانية الأوروبية من جهة أخرى، وهل هي بشكل أو بآخر ذات طابع عرقي أو ديني أو تاريخي لتشكل بذلك امتدادا للحروب التي شهدتها أوروبا منذ العصور الوسطى وصولا للحربين العالميتين الأولى والثانية.

استغرب الرجل من كلامي، وقال إن الأوروبيين لا يفكرون بهذه الطريقة بعد أن طووا صفحة الحروب تلك منذ عقود كثيرة، وأصبحوا أكثر تحضرا ووعيا، ورغم امتلاكهم جيوشا ضاربة وأسلحة فتاكة، إلا أنهم يعرفون تماما أنهم لن يستخدموها، لأن استخدامها سيعني حتما فناء البشرية، وليس هناك عاقلا يدفع بهذا الاتجاه.

قال إن الدين بينا وبين الله سبحانه وتعالى، ونحن نهتم بإنسانية الإنسان وأخلاقه وفعاليته وما يقدمه لمجتمعه والناس من حوله، ولا نهتم بوضعه الديني وخلفيته وحتى بلده، وبإمكانك رؤية أشخاص من شتى بقاع الأرض، من الهند وإفريقيا والشرق الأوسط، ومن مختلف الديانات والطوائف والأثنيات، وقد وصلوا إلى أعلى المناصب، ليس فقط بالتعيين من خلال إرادة شخص في رأس السلطة، بل أيضا من خلال انتخابهم كأعضاء في المجالس البلدية والبرلمان، وهذا يدل على أنهم يحظون بثقة عامة الناس، بناء على معيار واحد فقط، برنامجهم الانتخابي وما سيقدمونه من خدمات.

ضحكت بيني وبين نفسي، ضحكة كالبكاء، ضحكت وأنا أقارن بين كلامه وبين ما يجري في بلداننا، في العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان وغيرها من الدول التي مزقتها النزاعات والحروب الأهلية والطائفية والقبلية، وكيف أصبحت هذه الدول في ذيل المؤشرات العالمية، حتى أن قائمة أسوأ عشر مدن في العالم باتت تشمل مدنا مثل دمشق وبيروت وبغداد، والتي كانت في يوم الأيام حواضر الدنيا وجنة الله على أرضه.

كل منا متمسك إما بطائفته أو بعرقه أو أي سبب يميزه عن غيره، ليس بين دولتين أو مدينتين، بل داخل المجتمع نفسه والحي نفسه، وربما الأسرة نفسها، فنحن لا نبحث عما يوحدنا بل عما يفرقنا، وهذا فرق شاسع بيننا وبين المجتمعات المتحضرة.

في ألمانيا التقيت ببعض الأصدقاء ذوي المستوى العالي من الوعي والثقافة والحضور الاجتماعي والاقتصادي، بعضهم لا زال يشغل مناصب عليا في شركات مثل بي إم دبليو وسيمنز وبعضهم تقاعد، سألتهم عن وجه نظرهم في موضوع الأسباب غير المباشرة للحرب الروسية في أوكرانيا، وهل يمكن أن تؤدي هذه الحرب لإعادة الأحقاد والضغائن بين شعوب ومجتمعات القارة العجوز، خاصة وأن الألمان هم من أشعلوا الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأكثر من اكتوى بنارها.

كان الرد ذاته الذي سمعته في فرنسا: لا حرب على أساس ديني أو عرقي أو طائفي أو أحلام استعمارية، وإنما لدواع أمنية، وفي إطار تنازع القوى الكبرى على حصة أكبر من الكعكة العالمية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي سبق وتنازعا النفوذ في كثير من بقاع الأرض، وما الحرب الكورية وحرب أفغانستان، وحتى حروب 1956 و1967 و1973 في منطقتنا وغيرها من الحروب إلا أحد مظاهر هذا النزاع، وهي حرب تجري فيها غالبا كثير من دماء الشعوب، باستثناء شعوب الدول العظمى. إنها قاتل بقفازات بيضاء.

لم أتحرر من عبء المقارنات، حتى وأنا جالس في أحضان الطبيعية بمنطقة جبلية رائعة مطلة على البحر المتوسط في إيطاليا، شعرت بالأسى لأن بلادنا تملك أيضا ذات الطبيعة الساحرة والمناظر الخلابة المطلة على البحر ذاته، لكن قلة من يرغبون بالسفر إلى هناك بسبب سوء الخدمات وتردي الأمن بالدرجة الأولى.

صديق لي تعرض للاختطاف مؤخرا في لبنان، والعجيب في الأمر أن الخاطفون بدؤوا بتتبعه من المطار ليجهزوا عليه فور خروجه، ثم اقتادوه إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، ومنها إلى بعلبك، حيث اتصلوا بذويه وطلبوا فدية مالية كبيرة جدا، لكنه تمكن بحمد الله من الهرب منهم بأعجوبة.

أرجو أن تكون الأوضاع أكثر هدوء وأقل حرارة الصيف المقبل، وأن نحظى بفرصة إجازة الصيف في دولنا، في سوريا ولبنان والمغرب وغيرها، وأن نكون أكثر تقبلا وحبا لبعضنا البعض، وأن ندرك أن لا سبيل أمامنا سوى التفاهم والتوحد وتنمية أوطاننا بدل تدميرها.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s