الماركة.. بدعة أم حرفة؟

وصلتني هدية تحمل اسم ماركة عالمية مشهورة، وبينما أنا أتفحصها كنت أتمعن مرة أخرى في صلب ما بنيت عليه أعمالي، وأعني عملي في مجال الإعلان والتسويق والعلاقات العامة، وتواردت على ذهني ذكريات عن عدد من الشركات المحلية والعالمية التي أسسنا معها اسمها التجاري (الماركة)، ووضعنا له مخطط لخمس سنوات انتقل بعدها إلى مرحلة ثانية من البناء وترسيخ العلامة التجارية، لنواصل معه في مخطط لخمس سنوات أخرى، نركز من خلالها موقعه في السوق، وتسهم في تنمية أعماله.

بعض تلك الشركات ما زال موجودا، بل ما زال عميلا لدينا، وما زال يقطف ثمار هذا الاستثمار في الاسم التجاري حتى اليوم، وبعضها الآخر تبدل نشاطه ومواقعه الجغرافية لكنه ما زال يحتفظ بنفس الاسم ويستخدم زخم البدايات للترويج لخدمات ومنتجات جديدة، منها بالطبع من خرج من السوق وتلاشى لسبب أو لآخر.
ومن خلال خبرتي في مجال صناعة السمعة على مدى عقود، أستطيع القول إن الاسم التجاري في كثير من الأحيان يصبح أهم من الصنف أو الخدمة التي تقدمها الشركة، بل إن كثيرا من الأصناف والخدمات تتبدل وتتغير وتظهر أصناف وخدمات جديدة تقدمها الشركة للأسواق والمستهلكين تحت الاسم التجاري نفسه، وهم يثقون بها لأنهم يثقون بالاسم أساسا.
وقد قال لي مرة رئيس شركة نيفيا، وهو ألماني الجنسية، إن عملهم الدؤوب يهدف في نهاية المطاف إلى الحفاظ على ثقة المستهلكين، وهذا ما حدد هدفنا التسويقي منذ البداية وجعله واضحا أمامنا، وتمكنا من العمل معا في أسواق العالم العربي لأكثر من عشرين سنة، نما خلالها حجم أعمال نيفيا من نحو عشرين مليون دولار إلى ما يقارب مليار دولار في السنة. ونفس التجربة كانت تقريبا لنا مع أصناف أخرى مثل بي إم دبليو وغيرها.
ومع تطور صناعة الإعلان، أرى أن الصنف بدأ يأخذ شخصية ينفرد بها، وأصبح بحاجة أكثر لفلسفة تبرر خلفيته ووجوده ولماذا يجب أن تثق الناس به، وبرأيي أيضا أن الاسم التجاري كجسم الإنسان الذي يحتاج دائما إلى التغذية ليستمر في الحياة.
لقد بدأت عملي في مجال الإعلانات في ستينيات القرن الماضي، وتطورت مع تطور هذه الصناعة، لكن مع مطلع الألفية الجديدة حدث النقلة الكبرى فيها مع انتشار التكنولوجيا والإعلان الرقمي. هنا قررت التوقف والتحول لشيء آخر في حياتي، هو صناعة العقار والضيافة وغيرها، وتركت صناعة الإعلان للأجيال اللاحقة في شركتي.
لكن بعض الأسماء التجارية التي ظهرت في القرن الماضي لم تأخذ تلك التغيرات التكنولوجية الكبيرة على محمل الجد، وأصرت على استخدام نفس الأدوات من أجل الترويج لاسمها، ورويدا رويدا خسرت مكانتها لصالح أسماء تجارية صاعدة، أكثر حيوية وقدرة على فهم تأثير التكنولوجيا على الأعمال، بما فيها صناعة السمعة.
كوكا كولا وماكدونالدز مثلا هي نماذج لأسماء تجارية عالمية لا زالت تشغل الصدارة في مجال عملها، واستطاعت التمدد في الكثير من الأسواق مستفيدة من الانفتاح والاقتصاد الحر، بل بات العالم على اتساعه وكثافة عدد سكانه سوقا واحدا أمامها، وأن تصل إلى كل مدينة وقرية، وإقناع كل إنسان على ظهر هذا الكوكب بأن حياته ستصبح أسعد معها.
التكنولوجيا الحديثة غيرت أدوات التسويق، ووفرت أدوات أخرى للوصول للمستهلك والجمهور والتفاعل معهم، لكنها لم تغير جوهر التسويق الراسخ منذ الأزل، والذي يمكن تبسيطه بوصفه آلية لتلبية احتياجات الانسان، وهو علم يكاد يكون قائما بحد ذاته، يمثل علم النفس أحد أركانه أو نظرائه، ويقوم على دراسة سلوك المستهلك أو ما يعرف بـ«علم نفس المستهلك» وتطبيق نتائج هذه الدراسة لإنتاج أو بيع السلع المختلفة، حيث إن معرفة سيكولوجية المستهلك تساعد الشركات والمؤسسات على تحسين استراتيجيات التسويق الخاصة بهم.
بل إن التسويق تطور أكثر من ذلك، هل سمعتم عن «علم التسويق العصبي»؟ إنه يستخدم تقنيات مثل تتبع العين وخفقان القلب وزراعة الأفكار في أذهان الناس، ربما يكون فيلم «Inception» للنجم ليوناردو دي كابريو مثالا جيدا على ذلك.
يجب القول هنا أيضا إن صناعة الاسم التجاري لم تعد تقتصر على الشركات والمؤسسات والمنتجات والخدمات، بل تطورت لتشمل البشر أنفسهم، والانسان الناجح هو من يستطيع الترويج لنفسه تحت مجموعة صفات محددة: شاطر خبير موثوق، لذلك أصبح لدينا أشخاص «ماركات» في مجال من المجالات، ففلان تمكن من أن يكون اسمه مقترنا بالصناعة المصرفية، والآخر بطب القلب، والثالث في تنظيم الرحلات، وهكذا.
لن أسمي أسماء على مستوى البحرين أو المنطقة، لكن أود أن أشير إلى رائد الأعمال الأمريكي ستيف جوبز الذي تكن من صناعة هالة حول اسمه، وبات الناس يعشقون ويخلصون لمنتجات شركة آبل، بل يصطفون في طوابير طويلة للحصول على أحدث نسخة من الآيفون مقابل أكثر من 500 دولار لجهاز تكلفته الحقيقية أقل من ذلك بكثير.
آليون ماسك، صاحب تسلا وسبيس إكس وغيرها، نموذج آخر لشخص استطاع صناعة اسمه التجاري. يكفي أن نعرف أن تدوينة واحدة منه على تويتر ترفع قيمة أسهم شركة أو عملة رقمية أو تخفضها، كما أن المستثمرين يشترون أسهم تسلا بكثافة رغم أن الشركة لا تحقق أرباحا، وذلك بعد أن تمكن ماسك من تحويل سهم تسلا من مجرد استثمار حاله حال الأسهم الأخرى في البورصة الأمريكية إلى ما يشبه امتلاك تحفة أثرية أو لوحة فنية.
هذا الحديث يقودنا إلى موضوع المرشحين للانتخابات النيابية والبلدية القادمة في البحرين، وأتابع هنا أو هناك بعضا من أخبارهم، خاصة أن عددهم وصل لأكثر من مئتين حتى الآن، لكن كم مرشح من بينهم يعرف ويتقن صناعة وإدارة السمعة؟ ولديه خطة واضحة للظهور الإعلامي والتواصل مع الناس بناء على ركائز أساسية جذابة ومقنعة؟ نحن نعيش عصر الإعلان والتسويق والعلاقات العامة ومهارات التواصل، واتقان هذه الأمور مهم من أجل كسب ثقة الناخبين وتعزيز حظوظ الفوز بالانتخابات.
صناعة الاسم التجاري تطورت لتشمل الدول والحكومات والأحزاب والجماعات أيضا، حتى أنني أعتقد أن نجاح الغرب هو بحد ذاته نجاح ماركة، وفشل الشيوعية لأنها كانت لديها فكرة المنتج أو الخدمة الباهتة انطلاقا من حقيقة أنه ليس لدى المستهلك خيارات أخرى، ولم تكن تخاطب أو تلبي الاحتياجات العليا للإنسان مثل السعادة والاطمئنان والإيجابية.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s