لا يمكن الفصل بين زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرا للمنطقة، وزيارة نظيره الروسي لإيران، فالدولتين العظمتين تدركان تماما أهمية هذه البقعة الجغرافية من العالم بالنسبة لهما، خاصة في ظل التغييرات الجيوسياسية الجارية حاليا بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، وإمدادات الطاقة، والتضخم، وغيرها.
تابعت الزيارتين إعلاميا، وفي الواقع لا أريد أن أتعمق أكثر من اللازم أو أن أكون سطحيا أكثر من الازم، وأدركت أنه بالنسبة لبايدن، فقد بات واضحا أنه لم يتمكن من تحقيق النتائج التي كان ينشدها من زيارته، وكما يقول المثل “تيتي تيتي.. متل ما رحتِ متل ما جيتي”.
بل يمكن القول إن الزيارة كانت نصرا للسعودية ودول الخليج العربي، التي أثبتت ثقلها وتمسكها بمصالحها وشجاعتها في مصارحة سيد البيت الأبيض بأنها لن تصدر له شيكا على بياض بعد الآن، خاصة بعد المواقف المخزية لإدارته تجاه الملفات المهمة في المنطقة مثل البرنامج النووي الإيراني وحرب اليمن، وغيرها من الشواهد التي تبرهن على أن واشنطن أدارت ظهرها لحلفائها التقليديين والتاريخيين في منطقة الخليج العربي.
بالمقابل، ليس من الواضح حتى الآن مخرجات أو ثمار نتائج زيارة بوتين لإيران في اجتماع يحضره الرئيس التركي أيضا، لكن من الواضح أن روسيا بوتين استعادت كثيرا من إرث الاتحاد السوفيتي في المنطقة، وباتت خصما عنيدا بل ومكافئا للولايات المتحدة فيها.
قبل زيارة بايدن للسعودية تحديدا سادت الكثير من المخاوف بشأن أسباب ونتائج هذه الزيارة، وهناك من وصفها بأنها “زيارة فرض إملاءات أميركية، وإجبار العرب على الدخول في حلف عسكري مع إسرائيل شبيه بالناتو بدعوى مواجهة النووي الإيراني”، وهناك من تنبأ بما هو أسوأ، وجعل من هذا الناتو حقيقة قائمة سيتم الإعلان عنها خلال الزيارة.
ولأكون صريحا، لقد ساورتني شخصيا هذه المخاوف في البداية، لأن إسرائيل مهما كانت مهمة لأمننا القومي العربي إلا أنها لن تكون صديقة لنا في وقت من الأوقات، خاصة وأن الاستعلاء والفوقية من صفاتها، وترفض تقديم أي تنازل للعرب ولا تقر بحل الدولتين وحق الفلسطينيين في العيش على أرضهم بسلام.
لكن المملكة العربية السعودية أثبتت مرة أخرى أنها المدافع عن العرب والعروبة والإٍسلام، وحائط الصد المنيع أمام المشروعات الغريبة عن المنطقة، تقوم بهذا الدور ليس بعنجهية وعنترية كما كان صدام حسين يفعل، بل بحكمة وصبر وهدوء، وأثبتت الرياض مرة أخرى أنها الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط، وأنه لا يمكن تجاهلها أو نبذها على الإطلاق.
عاد بايدن إلى واشنطن بخفي حنين كما يقال، ولم يستطع تحقيق مكاسب تذكر يقنع بها الكونغرس أو المواطن الأمريكي، خاصة وأن السعودية أصرت خلال القمة على أنها لن تزيد انتاجها من النفط، بل أكدت على ضرورة عدم تحييد مصادر الطاقة العالمية الرئيسية، في إشارة إلى العقوبات الأمريكية والغربية على النفط والغاز الروسي.
وأدرك أنه لا يمكن للولايات المتحدة الانسحاب من المنطقة والتخلي عنها مقابل التركيز على مناطق أخرى في العالم مثل بحر الصين الجنوبي وتايوان وكوريا الشمالية واليابان وغيرها، وعاد ليؤكد مرة أخرى الحضور الأمريكي القوي في الشرق الأوسط، وهذا في الواقع ما يهمنا كعرب: حضور أمريكي متوازن يضمن استمرار تدفق النفط، ويلجم أطماع إيران، ويحقق الازدهار والتنمية.
وأدرك أيضا بشكل مباشر أو غير مباشر أن مشاكل الولايات المتحدة الأمريكية ليست مشاكلنا، وأن مصالحنا الوطنية هي من يحدد شكل علاقاتنا الدولية، وأنه ليس وكيلا حصريا لسياستنا الخارجية في عالم متعدد الأقطاب بوجود روسيا والصين وحتى الهند وباكستان والدول الأوربية التي لا تدور تماما في الفلك الأميركي، فالا شك أن أمريكا لا زالت قوة عظمى، لكنها لم تعد الوحيدة كما كانت خلال الأعوام الثلاثين الماضية.
ويحق لنا في الوطن العربي أن نكون قطب قوة عالمي، اعتمادا على ثقافتنا وقوتنا ومصيرنا المشترك، ولدينا الكثير مما يجمعنا خلافا للدول الأوروبية التي تسعى للانصهار في وحدة هجينة، ولقد قدمت قمة جدة التي جمعت دول الخليج العربي ومصر والأردن والعراق مثالا حيا على ذلك، ولقد أحسنت السعودية عملا عندما أعطت أمريكا درسا في وحدة العرب خلفها.
ولا بد من القول هنا إن الحرب الروسية في أوكرانيا ليست حربا بين دولتين، بل تكاد تكون حربا كونية يشترك العالم كله فيها بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال تبعاتها السياسية والاقتصادية، ومهما كانت نتائج هذه الحرب، فإن روسيا لن تخسر شبرا واحدا من أراضيها، بالمقابل تزداد المعاناة الأمريكية والأوربية تحديدا يوما بعد يوم، فلا هم يستطيعون الانسحاب أمام روسيا، ولا حكوماتهم قادرة على تحمل المزيد من التراجع الاقتصادي والمعيشي لشعوبها، والناجم أساسا عن العقوبات التي تفرضها تلك الدول بالأساس على روسيا.
ربما يكون من الضروري عقد لقاء عربي روسي صيني، على غرار اللقاء العربي الأمريكي، وذلك بهدف تعزيز التوازن الجيوسياسي، والإبقاء على باب التفاهمات مع تركيا وإيران، لأن الموازين تغيرت وينبغي على العرب أن يتمركزوا ويقتنصوا فرصة هذا التغيير في إثبات مكانتهم وقوتهم والدفاع عن مصالحهم واستقرارهم.