المنظمات الدولية لعبة

من السذاجة المطالبة بعالم كالذي تخيله أفلاطون في «المدينة الفاضلة»، لكن من السذاجة أيضا الاعتقاد أن أمريكا والغرب ملائكة فيما أعدائهم شياطين.

فالحرب الروسية في أوكرانيا كانت أحدث برهان على أن جميع المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة والاتحاد البرلماني الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمات حقوق الإنسان وأطباء بلا حدود وغيرها ليست نزيهة أو حيادية أو مستقلة تماما، بل تخضع بشكل أو بآخر لحكم القوي، القوي الذي يفرض على العالم ما هو الخطأ وما هو الصواب كما يريد ويقرر، لأنه هو من صنعها لاستخدامها كما يريد.

هذه الحرب أثبتت أن المؤسسات الدولية كلها أدوات بيد الغرب لتسير إرادات دوله، والتي لا تخجل من أن صراحه أن مصلحتها فوق الحياد وفوق كل شيء، وأنها تعمل بسياسة «إن لم تكن معي فأنت ضدي»، لتلغي بذلك حق الغير في الدفاع عن نفسه وعن ثقافته وحفظ أمنه.

وقد جددت هذه الحرب فينا، نحن كعرب ومسلمين، مشاعر خذلان الغرب لنا، واستغرابنا تطبيق القانون الدولي في جزء من العالم، وتجاهل تطبيقه في جزء آخر، وتعترينا خيبة الأمل من تجاهل الدول الغربية تنفيذ قرارات للأمم المتحدة حول فلسطين تعود إلى عقود طويلة، في حين تعمل تلك الدول على اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة وموجعة خلال أيام ضد روسيا.

فأن ندافع عن حق الأوكرانيين ضد الغزو أو الاحتلال الروسي من جهة، ونغمض أعيننا عن حق الفلسطينيين من جهة أخرى إنما هو قمة التناقض والكيل بمكيالين، فلماذا العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا تنتهك القانون الدولي بينما الضربات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وممارسة الفصل العنصري في القدس لا تنتهك القانون الدولي؟ لماذا فرضت أمريكا وأوروبا عقوبات شاملة على روسيا، حتى القطط والكلاب الروسية لم تنجُ منها، بينما أمريكا وأوروبا لم تعاقب يوما إسرائيل؟ هل في نظر الغربيين أن الدم الفلسطيني من الدرجة الثانية، والإنسانية تُصنّف وفقا للعرق واللون؟

حتى أن الدولار بات سلاحا لتركيع وإفقار الشعوب التي تعادي أنظمتها الولايات المتحدة، بل إن أمريكا تستخدم الدولار في الحصول على ثروات حتى حلفائها وأصدقائها، وتطبع من هذا الدولار ما تشاء، طالما أنها الأقوى عسكريا والأقدر على الهيمنة.

في الواقع يا إخواني، لقد كشفت الأزمة الأوكرانية مرة أخرى عن النفاق الغربي والمعايير المزدوجة التي يطبقها الغرب على الشعوب بتحيز وعنصرية، وما فشلت به الدول العربية على مدى سبعين عاما من محاولات استعطاف الغرب وكسب وده إزاء القضية الفلسطينية العادلة فعلته أوكرانيا في سبعة أيام، واندفع الغرب لتقديم المساعدة الإنسانية وصواريخ ستينغر واستقبال اللاجئين، وفي الوقت نفسه، رفعت الولايات المتحدة وأوروبا عصا العقوبات ضد روسيا، واستمرت التغطية الإخبارية الغربية للأزمة الأوكرانية على مدار الساعة من دون انقطاع.

ولطالما تغنى الغرب وأمريكا وأوروبا بحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية والحياد، لكن عندما اقتربت الحرب من حدودهم ومستهم بشكل مباشر، كشفت وجههم الحقيقي، فأصبح الانحياز علنيا، والإدانة والاستنكار انقلبت إلى دعم وتعبئة وتحريض ومقاطعة وفرض عقوبات ومضاعفتها ومزيد من العزلة التي طالت كل القطاعات الاقتصادية والخدمية والمشاركة في الرياضة العالمية، إضافة حظر البريد والإعلان عبر الشبكة العنكبوتية وإغلاق المجالات الجوية أمامها، وطردها لبعثات دبلوماسية واستدعاء سفراء وعقد اجتماعات ولقاءات متواصلة وتأهب الجنائية الدولية للتحقيق في ارتكاب روسيا جرائم حرب، بالإضافة إلى تقديم الدعم العسكري والمالي.

فالعالم كله يرى معاناة العائلات الفلسطينية في الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس الشرقية، جراء سياسة هدم المنازل والترحيل، والاعتقال بما فيهم الأطفال وكبار السن، لكن أقصى رد غربي على الانتهاكات الإسرائيلية لا يتعدى بيانات خطابية، إن حصل أساسا، وأظن أنه لو حصلت فلسطين على نصف الاهتمام والتعاطف والدعم الذي تحظى به أوكرانيا لما استمرت نكبة الشعب الفلسطيني لأكثر من نصف قرن.

هذا ما دفع وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي إلى انتقاد سياسة «الكيل بمكيالين» التي تتبعها بعض دول العالم، والتي قال إنها «شجّعت إسرائيل على ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني»، وأن «احترام القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، مكفول بشكل انتقائي وليس عالميًا»، وذلك في كلمة له أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في جلسته المخصصة لمناقشة الأزمة الروسية الأوكرانية.

والغرب لن يتخلى عن سياسة الكيل بمكيالين على المدى القريب، خاصة وأن الحرب الروسية الأوكرانية تتصاعد وتشتد يوما بعد أخر، ولم تستخدم روسيا من قوتها العسكرية إلا جزءا بسيطا، والمعركة لم تحسم بعد ولم يحقق أي من الأطراف أهدافه المعلنة والخفية، لكن كل المؤشرات تقول إن القادم عظيم وبركان قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة تتغير من خلالها الخريطة الجيوسياسية وينتهي عصر أحادي القطبية.

ولم نعد نستغرب رؤية بعض رؤساء الدول الغربية ينددون بما يصفونه على حد تعبيرهم «بالجرائم الكبرى في أوكرانيا». يصل بهم الأمر إلى حد ذرف الدموع على مقتل المدنيين هناك دون أن يحركوا ساكنا عندما يتعلق الأمر بأطفال فلسطينيين مروعين قتلوا أو سجنوا على يد الإسرائيليين.

في مقالي السابق أشرت إلى أن أحد الأسباب الأساسية لما يكابده لبنان واللبنانيون من مآسٍ هو الإفلات من العقاب، فالعدالة هناك بلا أنياب، حتى بعد صدور قرارات نهائية بمعاقبة قتلة الحريري ما زالوا طلقاء، وجرى تعطيل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، فلماذا لا تدعم الدول الغربية تحقيق العدالة في لبنان؟ هل لأنه بلد غير نفطي خلافا للعراق مثلا عندما أصرت الولايات المتحدة على القبض على صدام حسين ورفاقه ومحاكمتهم ثم إعدامهم؟

عندها لم يقم الغرب بإدانة غزو الولايات المتحدة للعراق، كما نرى تدخلا عسكريا أمريكيا في بحر الصين بذريعة حماية استقلال تايوان على الثلاثين سنة الماضية، بالمقابل لم نسمع أن الجيش الصيني يعمل خارج حدود بلاده مثلا. كما أن حرية حمل السلاح في الولايات المتحدة، وحوادث قتل الشرطة للسود، ومشاهد الفقر المدقع لأمريكيين.. كلها أمور لا تتطرق لها منظمات حقوق الإنسان لا من قريب ولا من بعيد، هذه المنظمات التي تضع بلادنا تحت مجهرها وكأنها سيف مسلط على رقابنا. إنه بالفعل عالم أعرج، عالم يفرض فيه القوي وجهة نظره أحادية الجانب على الضعيف، بعيدا عن العدالة والأخلاق والإنسانية.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s