آهٍ يا مرتع الطفولة والصبا، يا مدينة الفيحاء، يا مدينة كل العصور، مدينة التاريخ والحاضر، والمعالم الدينية والمقاهي والأسواق والحمامات والخانات والجامعات والدور الثقافية والسياحية. مدينة الجوامع التي تعطيك انطباعاً بأنها إسلامية إلى حد التطرف، قبل أن ترى الكنائس لتدرك أنها خليط من كل الأديان والثقافات. مدينة الديانات والمعالم الطبيعية والمهن التقليدية الموغلة في القدم، المدينة العريقة المعروفة بالنسبة إلى التاريخ منذ أن دوّن التاريخ.
عن طرابلس أتحدث، عاصمة الشمال، وثاني أكبر مدينة في لبنان بعد بيروت، والتي كانت تشع ثقافة وألقاً على العالم، ومن مينائها انطلقت سفن الفينيقيين المحملة بالتجارة والانفتاح على الأمم الأخرى، تعلمهم السلم والتعايش واللغة واللون الأرجواني، وليس السفن المحملة بالبشر المكدَّسين فوق بعضهم البعض والهاربين من جحيم بلدهم إلى المجهول كما يحدث حاليا في موجات الهجرة المتلاحقة من طرابلس ومن كل لبنان.
هذا البحر ابتلع قبل أيام عددًا من أهل المدينة وغيرها، في حادثة قارب كان من المفترض أن ينقلهم من جحيم العيش إلى رغده بحسب اعتقادهم، لكنه غرق بهم وبأطفالهم وأحلامهم، وطفت جثثهم على السطح قبل أن ينتشل بعضها عناصر من الجيش اللبناني، فيما لسان حال الناجين وكأنه يقول: يا ليتنا غرقنا معهم، لأن حياتنا وموتنا أصبحت سيان.
وسواء أكان الجيش مخطئاً في تعامله مع هذا القارب أو لا، فإن جميع من عليه كان يعرف بأنه ذاهب إلى المجهول، وأن أرض أوروبا التي كان يحلم أن يصلها لم تعد أرضا صديقة ودودة ترحب باللاجئين، بل يخرج خفر سواحلها في اليونان وإيطاليا وغيرها ليطبق على ما تبقى من السفن المحظوظة التي ربما تقترب من شواطئه، ويتمنى في قرارة نفسه أن تنقلب تلك السفن حتى يرتاح منها وممن عليها.
ولقد تواصلت مع بعض الأهل والأصدقاء في طرابلس بعد حادثة غرق هذا القارب، فلم أرَ منهم كثير اكتراث أو اهتمام، والسبب أن طرابلس الفيحاء كما يعرفها اللبنانيون والعالم أصبحت طرابلس الجرداء المعدومة، طرابلس الصراعات السياسية الهائلة، ومستوى الفقر المرتفع جدا، وأدركت أنهم يأسوا من الحياة دون كرامة، وباتو ربما يبحثون عن الكرامة في الموت. أكدوا لي ما أعرفه ويعرفه الجميع، أن الحال في طرابلس هو الحال في كل لبنان، لبنان المريض الذي يصارع الموت، لبنان الجسد الذي لا هو حي فيُؤمل، ولا ميت فيُنقل.
الجوع يا سادة، وما أدراكم ما الجوع، الناس في لبنان جياع بمعنى الكلمة، والفقر والجوع منبع الويلات والمآسي التي يعانيها لبنان، وينسب لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه قوله «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، كما جاء في الأثر «عجبت لمن لم يجد قوت يومه كيف لا يخرج شاهرا سيفه»، لكن عندما لم يجب اللبنانيون قوت يومهم وخرجوا في مظاهرات مطالبين بالرغيف والكرامة، لم يجدوا في الواقع من يثوروا عليه، لا سلطة ولا حكومة، لأن لبنان الدولة مات، وأيقنوا أن «الضرب في الميت حرام»، وأن «إكرام الميت دفنه».
وكما يحدث عند كل مأساة تحل في لبنان: الجميع يحمل المسؤولية للجميع، ويثار النقاش والصدام لا بهدف إيجاد الحلول وعدم تكرار مثل هذه الحوادث، بل لسحق الخصوم وتحصيل مكاسب سياسية وإن كان ذلك على حساب أرواح الناس في بلد بات فيه كل شيء غالي إلا أرواح الناس، ما أرخصها.
بالمناسبة، ما هي أخبار التحقيق في كارثة الانفجار الذي حصل في مرفأ بيروت في أغسطس من العام 2020 وتسبب في وفاة 218 شخصاً وإصابة 7 آلاف آخرين وأحدث دمارا واسعا في المدينة لم تتعافَ منه حتى الآن؟ أنا أقول لكم: لقد أصبحت هذه القضية مثار نزاع وثأر بين القوى السياسية المتخاصمة، واختفت منذ أشهر أخبار القاضي المحقق طارق بيطار بعد أن وجد صعوبة في استدعاء كبار المسؤولين للإدلاء بشهاداتهم، وجرى تعليق التحقيق، وربما تم دفن أوراق القضية مع جثامين الشهداء.
هذا يعني أنك في دولة يمكن أن ترتكب خطأ عن قصد أو بدونه يذهب ضحيته المئات، ويحدث دمارا هائلا يكلف المليارات، ثم تعيش حرا طليقا، بل ربما تتم مكافأتك عبر تسليمك مزيدا من المناصب أو تصبح نائبا، أو تأخذ حصة أكبر من السلطة التشريعية والتنفيذية، تماما كما لو كنت تشاهد فيلما للمافيا ينتصر بنهايته الأشرار الذين يرتدون قفازات بيضاء ويعتاشون على دماء الأبرياء.
ماذا أيضا عن المدعو سليم عياش الذي أدانته المحكمة الدولية بشكل نهائي بتفجير شاحنة مفخخة في فبراير 2005 في بيروت مما أسفر عن استشهاد الرئيس رفيق الحريري و21 آخرين وإصابة 226 شخصاً بجروح؟ أليس حراً طليقاً حتى الآن؟. لقد بات لبنان بالفعل بلد الإفلات من العقاب مهما كان الجرم، المهم أن تكون محميا بقوة السلاح.
أتألم وما باليد حيلة، ولا يزل السياسيون يغامرون بأرواح الناس، والسلاح موجه إلى رؤوسهم، وكل ما كلمت أحد السياسيين اللبنانيين قال لي ما باليد حيلة. وفي الواقع أنا لا ألوم رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، فأنا أعرف الرجل منذ كنا طلاباً في الجامعة الأمريكية ببيروت، وأعرف مدى حبه للبنان، وشخصيته القيادية ومرونته، وأدرك أنه يبذل جهوداً كبيرة من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من شكل الدولة والشرعية.
لبنان مقبل على انتخابات نيابية جديدة لا يمكن التعويل على نتائجها كثيراً، لكن يبقى هناك بصيص من الأمل بتخفيف سيطرة المتطرفين على مجلس النواب مقابل حظوظ أكبر للتكنوقراط أصحاب الفكر المستنير الساعين إلى إعادة لبنان لحضنه العربي واستعادة العلاقات مع الدول الشقيقة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية بعد أن عادت الرياض لترمي بثقلها في الملعب اللبناني على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
الأمل اليوم بمجلس نيابي ينتخب رئيساً جديداً قوياً
جريئاً للبنان يعمل على سحب الشرعية عن السلاح غير الشرعي، ويكون رئيساً لكل اللبنانيين، للبيروتيين والطرابلسيين والصيداويين والبقاعيين، ويدرك تماماً أن مصلحة لبنان ليست مع قوى الطائفية والتأزيم والمشروعات الإقليمية خارج الحدود، ويبدأ بجدية مشروع استعادة لبنان الحر العروبي الذي كان يشع ثقافة وفكراً على العالم أجمع.