عاد الدولار الأمريكي ليظهر كسلاح فعَّال بيد الولايات المتحدة في الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك عندنا عزلت واشنطن والغرب روسيا عن النظام المصرفي العالمي وحرمتها من الوصول إلى جزء كبير من أرصدتها بالدولار، وهو ما دفع روسيا للإعلان عن عزمها بيع الغاز لأوروبا بالروبل، في محاولة للالتفاف على العقوبات والحد من تدهور العملة الوطنية.
ولقد استطاع الاقتصاديون الأمريكيون البارعون أن يكيفوا كل بنوك وأسواق العالم مع الدولار، فلا تجارة عالمية وتبادل سلعي بين الدول إلا بهذه العملة، العملة التي أصبحت أيضا الرقم واحد في احتياطات البنوك المركزية حول العالم، بل إنها أصبحت عملة التداول الأكثر أهمية وربما شبه الوحيدة في كثير من الدول خارج الولايات المتحدة مثل لبنان.
دول العالم، خاصة دول آسيا وأمريكا الجنوبية وآسيا وغيرها، تعبت من قيد الدولار لحريتها الاقتصادية، لكنها تعلم في الوقت ذاته أنه ما باليد حيلة، فرجل الكاوباوي القوي سريع جدًا في إشهار واستخدام مسدسه، والساحة ساحته والميدان ميدانه، أما باقي اللاعبين فليسوا نظراء له في القوة، ولا مجال أمامهم للخروج من حظيرته.
بل على العكس، تلجأ الكثير من هذه الدول إلى مراكمة احتياطاتها من العملة الصعبة بالدولار، بما فيها الصين التي تملك أكبر كتلة نقد من الدولار خارج الولايات المتحدة تقدر بأكثر من 3.2 ترليون دولار، إضافة إلى أن كثير من دول العالم اشترت وتشتري أذونات وسندات الخزانة الأمريكية والتي وصل إجمالي قيمتها إلى 7.1 ترليون دولار!. هذا الوضع النقدي العالمي المختل والعجيب جعل الدولار مهما لكثير من دول العالم ربما أكثر من أهميته لدى الولايات المتحدة نفسها.
المضحك المبكي أيضًا أن الولايات المتحدة تقوم بطباعة الكميات التي تريدها من الدولار كلما أرادت ذلك تحت مسمى «التيسير الكمي» وبهدف ضخ المزيد من الأموال في شرايين الاقتصاد، تمامًا كما فعلت إبان الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008 وفي أزمة كورونا مؤخرًا، لا شيء يمنعها من ذلك سوى رغبة البنك الفدرالي الأمريكي بالحد من التضخم فيرفع سعر الفائدة ليمتص القليل من الكتلة النقدية الهائلة التي ضخها في الأسواق.
هناك من يرى أن القيمة الحقيقة للدولار لا تساوي 15% من قيمته الحالية، بمعنى أنه لو كانت اللعبة الاقتصادية والمالية عادلة، وخيوطها بيد جميع الدول وليس بيد الفيدرالي الأمريكي وحده، لكان الريال السعودي مثلاً يساوي دولار أمريكي وربما أكثر، ولكنت الدول تمكنت من الحصول على ثلاثة أضعاف مستورداتها من الولايات المتحدة مقابل نفس القيمة التي تدفعها من عملتها الوطنية دون أن تكون مضطرة للمرور عبر بوابة الدولار.
ليست الدول وحدها متضررة من سيطرة الدولار، بل الأفراد أيضا، حيث إن معظم المستثمرين ورجال الأعمال وحتى الناس العاديين يراكمون أو يخزنون ثرواتهم ومدخراتهم بالدولار الأمريكي الذي يعاني من تضخم وانحدار سريع في قيمته بسبب العديد من الأسباب من بينها طباعة واشنطن للكثير منه.
كل ما سبق مكَّن الولايات المتحدة من استخدام الدولار كسلاح في العقوبات على الدول، لكن مع الأسف لم تفهم، أو أنها لا تريد أن تفهم، أن هذه العقوبات تقتل الشعوب فقط وليس الأنظمة، فالعقوبات على سوريا شددت من الخناق على الشعب السوري الذي لا حول له ولا قوة في مواجهة نظامه، كذلك زادت هذه العقوبات من جوع الشعب الإيراني ورضوخه لحكم الملالي، ولا اعتقد أن العقوبات ستنجح في تأليب الشعب الروسي ضد بوتين.
الدول الأوربية القوية اقتصاديا التي تشارك مع الولايات المتحدة في فرض هذه العقوبات تشكل معها ما يمكن تسميته بـ «الجبهة الغربية»، العسكرية عبر حلف شمال الأطلسي، والاقتصادية أيضا، فمنذ خطة مارشال ما بعد الحرب العالمية الثانية يدرك الطرفان أهمية ارتباطهما العسكري والتقني والعلمي والثقافي والاقتصادي والمالي أيضا، حتى لو ظهر أن البيت الأبيض قد تخلى عن أوروبا في هذا الملف أو ذاك، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية عادت لتبرهن مرة أخرى على ضرورة هذا الارتباط.
لكن كيف هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على العالم اقتصاديًا وماليًا من خلال الدولار؟ في الواقع مع خروج الولايات المتّحدة منتصرةً من الحرب تمكنت من فرض الدولار الأمريكي كمرجعٍ رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى التي أنهكتها الحرب، وكان الدولار الأمريكي هو العملة الوحيدة على مستوى العالم المُغطاة بالذهب، مما دفع عددًا كبيرًا من دول العالم إلى العمل على تكديس الدولارات الأمريكية بهدف استبدالها بالذهب مستقبلًا كاحتياطي، وهكذا تحقق حلم العمّ سام بالسيطرة على الاقتصاد العالمي.
لكن عندما خاضت الولايات المتّحدة حرب فيتنام في سبعينات القرن الماضي احتاجت كالمعتاد إلى المزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب، فقامت بطبع دولارات غير مغطاة بالذهب دون أن تُعلِم أحدًا بذلك. ولكن الأزمة الكبرى حصلت عندما طالب الرئيس الفرنسي تشارل ديغول عام 1971م بتحويل الدولارات الأمريكية الموجودة لدى البنك المركزي الفرنسي إلى ذهب، فعجزت الولايات المتحدة عن تلبية طلبه، مما دفع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى إصدار بيان في عام 1973 يلغي فيه التزام الولايات المتّحدة بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، عُرفت لاحقًا باسم أو صدمة نيكسون.
كانت صدمة حقيقية للدول على مستوى العالم، إنّها خدعة تمّ خداع العالم بأسره بها، فبعد أن كانت تعمل على مرّ السنوات لتكديس الدولار الأمريكي كاحتياطي للنقد الأجنبي لتستبدله بالذهب عندما تريد، أصبحت الآن غير قادرة على ذلك، والأسوأ من كلّ ذلك هي أنّها كانت ما تزال مجبرة على التعامل بالدولار، لأنّها لا يمكنها التخلّي عنه بعد أن قامت بتكديس كلّ هذه الدولارات في الاحتياطي النقدي الأجنبي وإلّا ضاعت أدراج الرياح.
هكذا بات العالم مُكبَّلاً بالدولار الأمريكي، وواشنطن تستخدمه كسلاح لعزل أعدائها عن السوق العالمي وتجويعهم وتركيعهم، ولقد فشلت جميع محاولات الاستغناء عن الدولار في التبادل السلعي، والعم سام لا يتردد في إشهار هذا السلاح بوجه أعدائه، وهو طبعا يضع مصلحته فوق كل اعتبار، ولا يحدثني أحد عن الأخلاق في السياسة، فهذه بحد ذاتها بدعة أمريكية.