مخطئ من يعتقد أن روسيا ستنكسر في أوكرانيا، ومخطئ من يعتقد أن الصين تتفرج على الصراع الدائر هناك وأنها تكتفي بانتظار دورها حتى يتفرغ لها الغرب ويقطع يدها عن جزيرتها تايوان.
الصراع على أوكرانيا، أو الحرب الروسية على أوكرانيا، أو الحرب الروسية – الغربية على الأراضي الأوكرانية، سمّها ما شئت، لا تسير كما تشتهي روسيا بلا شك، ولكن روسيا لن تسمح بأن تهان وتفقد هيبتها وتنسحب من أوكرانيا دون أن تحقق جميع أو معظم أهدافها، ولن تقبل وجود الغرب على حدودها مهما كلف الثمن.
تكاليف عالية تدفعها روسيا في أوكرانيا، وربما لم تكن تتوقع أن يطول أمد التدخل، وتفاجأت بتأخر تقدم جيشها مقابل المقاومة الشرسة التي يبديها الأوكرانيون، والتي دعمها الغرب بأنواع كثير من الأسلحة والمتطوعين والمعلومات الاستخبارية، وهذا بالمناسبة دليل آخر على حق روسيا في تطهير جوارها من أعدائها.
لكن روسيا لم تكن لترضى بأي حال من الأحوال مواصلة حلف الناتو الاقتراب من حدودها أكثر، وقضمه دولة من دول الاتحاد السوفيتي السابق بعد أخرى، وصولا إلى أوكرانيا، التي تشكل أهمية كبيرا جدا في الفضاء الجيوسياسي والعسكري لموسكو، خاصة أن روسيا فلاديمير بوتين اليوم ليست روسيا ميخائل غورباتشوف أو روسيا بوريس يلتسن في تسعينات القرن الماضي.
ولو تبادلت الولايات المتحدة وروسيا الأدوار لما قبلت واشنطن بوجود حلف وارسو -المندثر- في المكسيك أو كندا مثلا، وما زالت عالقة بالأذهان أزمة «خليج الخنازير» في ستينيات القرن الماضي عندما وقف العالم كله على قدم واحدة يخشى اشتعال حرب نووية في أية لحظة، وذلك نتيجة نشر الاتحاد السوفيتي صواريخه في كوبا.
في ظل كل التطورات الجارية حاليا تتجه كثير من الأنظار إلى الموقف الصيني من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، فالمسألة متشابكة جدا بالنسبة للصين، وأمام بيجين كتلة شائكة متداخلة من الخيارات غير الجيدة، لذلك ربما تختار الأقل سوءا، فالصين لا تريد التخلي عن حليفتها روسيا، لكنها لا تريد في الوقت ذاته خسارة الغرب، اقتصاديا على الأقل.
الموقف الصيني يبدو أقرب للحياد، وإن كانت من الناحية الاستراتيجية تقف في نفس الخندق مع موسكو في مواجهة المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، فبكين لم تنضم إلى القائمة الطويلة من الدول التي أدانت الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، ناهيك عن فرض عقوبات على موسكو، بل ألقت اللوم على الولايات المتحدة في إثارة الأزمة وتصعيدها.
غير أن الموقف الصيني لم يذهب بعيدا في دعم روسيا، لأنه مكبل بمبدأ «احترام أراضي الدول وسيادتها» بما فيها أوكرانيا، وهو ذات الموقف الذي تبنته بكين عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ناهيك أن الدعم الصيني لروسيا من شأنه أن يورط الصين في صراع أكبر مع الغرب، في قضية لا تعنيها بشكل مباشر.
روسيا أيضا بحاجة ماسة للصين، بل أصبحت هذه الحاجة وجودية بعد فرض هذا الكم الهائل من العقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو، والاقتصاد الصيني الضخم يمثل المنقذ للاقتصاد الروسي، خاصة ما تعلق باستمرار تصدير النفط والغاز إلى السوق الصينية في حال أغلقت الأسواق الأوروبية والغربية أبوابها أمام صادرات الطاقة الروسية، ما يخفف من وطأة تلك العقوبات ويحول دون تركيع روسيا اقتصاديا.
قلت أكثر من مرة أني لا أخفي حبي للغرب وإعجابي بالحرية التي يتمتع بها، وأنا أمقت الشيوعية وأنظمة الحكم التي تلغي شخصية الفرد وكيانه، لكن الغرب لم يقدم لنا النموذج النهائي للحكم الرشيد، بل إن الديموقراطيات الغربية أثبتت في كثير من الأحيان فشلها عندما أوصلت أحزابا عنصرية متطرفة إلى الحكم، حتى أن بريطانيا ما زالت تعاني حتى الآن اقتصاديا من تداعيات خروجها من الاتحاد الأوربي، هذا الخروج الذي جاء بناء على تصويت ديمقراطي حر قام به بريطانيون كارهون للأجانب ليس إلا.
بل إن الديمقراطية أصبحت في كثير من الأحيان وسيلة للتحكم في البلاد والعباد عبر صناديق الانتخابات ذاتها، كما في إيران التي يرزح شعبها تحت نير الفقر والعوز، ولبنان الذي أوصلته ديمقراطيته الهجينة إلى ما هو عليه الآن من تردي.
بينما دولة مثل الصين مثلا تمكنت من بناء نظام حكم شمولي في معظم جوانبه، ووضعت جميع مقدرات البلاد تحت سيطرة حزب واحد، وأنكرت حقوق أكثر من مليار صيني في التعبير عن رأيهم في نظام حكمهم، لكن الحق يقال أن هذا الحكم جلب التنمية والازدهار للصين وللشعب الصيني، مقابل ديمقراطية متعثرة في دول مثل الهند أو باكستان مثلا.
باعتقادي أن عالما متعدد الأقطاب، فيه الصين وروسيا إضافة إلى الولايات المتحدة والغرب، أفضل للجميع من عالم يخضع لسياسات وإملاءات وتوجهات واشنطن فقط، فالدول المتوسطة أو الصغيرة كالمستهلك في السوق، كلما تنوعت أمامه الخيارات كان ذلك أفضل له، بل وتسابق كبار التجار والمتاجر على إرضائه، بدلا من مستهلكين كثير عند تاجر واحد يفرض عليهم بضاعته أيا كانت بالسعر الذي يريد.
من هنا ينطلق الموقف الشجاع والمسؤول لدول الخليج العربي تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية، حيث لم تنحاز هذه الدول للموقف الأمريكي كما كانت الإدارة الأمريكية تمني النفس، ومن المستغرب بالفعل أن تعتقد إدارة بايدن أن دول الخليج ستقدم لها دعما مجانيا دون مقابل، خاصة وأن هذه الإدارة تتبنى نهجا لا يظهر معه أنها تحافظ على مصالح شركائها التاريخيين الاستراتيجيين.
يظهر هذا جليا في الاندفاع الأمريكي نحو إحياء الاتفاق النووي الإيراني بأي ثمن، في وقت لا تقدم فيه إيران أي تنازلات، وتواصل، بل تصعد، من تدخلها في اليمن حيث تنطلق طائرات الحوثي المسيرة وصواريخه لضرب المنشآت الحيوية والمدنيين في السعودية والإمارات، كما تزيد من تدخلها في سوريا ولبنان والعراق مباشرة أو عبر ميليشياتها وأذرعها.
سقط القناع عن الغرب في الأزمة الأوكرانية بشكل جلي، وبات واضحا أنه يكيل بمكيالين، وأن مصالحه فوق كل اعتبار، وأن العالم بالنسبة للغرب «ابن ست وابن جارية»، لذلك أرى أن الأحداث الجارية حاليا يجب أن تعزز من التفافنا حول بعضنا البعض كعرب يربطهم تاريخ ومصير مشترك، وأن يكونوا أكثر قوة في عالم لا يفهم إلا لغة القوة.