سياسة بالأمر الواقع

أردت أن أكتب عن مواضيع أخرى هذا الأسبوع، لكن الحرب الروسية الأمريكية على أرض أوكرانيا ملأت الدنيا وشغلت الناس، وجعلت كل المواضيع الأخرى أقل أهمية. كيف لا وهذه الحرب ربما تعيد تشكيل العالم مجددا وستترك بلا شك آثارا جيوسياسية واقتصادية بعيدة المدى، كما أن المتحاربين لديهم أسلحة نووية من شأنها إفناء البشرية.

لا أكشف سرا إذا قلت إنني ميال للغرب ولنظامه السياسي والديمقراطي والاقتصادي، فقد درست في مدارس وجامعات غربية في لبنان وفي الولايات المتحدة الأمريكية، ولدي أعمال في لندن واستراليا وغيرها، كما أنني أرى أن كل الدول التي حالفت الغرب والولايات المتحدة مثل دول الخليج العربي واليابان وكوريا الجنوبية تشهد معدلات تنمية ورفاه مرتفعة، على عكس الدول التي اختارت عداء الولايات المتحدة أو ما تسميه «الشيطان الأكبر» مثل كوريا الشمالية وإيران وسوريا وفنزويلا فأغرقت نفسها وشعبها في الفقر والجوع.

لكني أستطيع أن أجزم مع الأسف أن أمريكا ما لبثت تخذلنا وتقهرنا منذ تأسيس اسرائيل وحتى اليوم، فهي تقبلنا على خد وتصفعنا على الخد الآخر إن لم أقل تلكمنا عليه، كذلك لا يمكن الوثوق كثيرا بواشنطن كحليف، فلا زالت مشاهد الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان ماثلة في الذاكرة، إضافة إلى ما عانيناه في البحرين إبان أحداث العام 2011 المؤسفة وانحياز إدارة أوباما آنذاك الواضح إلى الساعين خلف الفتنة والشقاق وإقامة الجمهورية الإسلامية في البحرين.

وأرى أن ما يحصل اليوم بين روسيا وأمريكا في أوكرانيا ليس منازعة على الأرض بقدر ما هو منازعة على العنفوان والهيبة وإثبات النفوذ، فالرئيس الروسي بوتين يشعر بحزن عميق في قلبه على تفكك الاتحاد السوفيتي وضياع مجده، وقد كان هذا واضحا بشكل جلي في خطابه الاسبوع الماضي، بالمقابل: لن يسمح الرقم واحد في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية، لأي دولة بأن تسحب منه عرشه، لذلك يحرص على إبقاء مسدس الكاوبوي مشهرا ليكون أول من يطلق عندما يقتضي الأمر.

قرأت ان بوتين كان ضابط مخابرات في سفارة بلاده في ألمانيا العام 1989 عندما أسقط الألمان الغاضبون جدار برلين، وحاصروا كثيرا من مباني نظام الحكم الشيوعي في برلين الشرقية، والتي كان بوتين في إحداها، واتصل طالبا النجدة من موسكو لكن لم يجبه أحد، يقول إنه شعر حينها أن دولته لم تعد موجودة. أنا أيضا كنت في برلين في تلك الليلة، وشاهدت بأم عيني الألمان في برلين الشرقية يعبرون الجدار ويملأون المولات والمحلات في برلين الغربية، وكأنهم انتقلوا من عالم البؤس إلى عالم النور.

أمريكا تريد من خلال سياستها الناعمة أن تملي على العالم أمرا واقعا جديدا، لكن روسيا اليوم ليست روسيا الأمس، والحرب المباشرة معها ستكون مكلفة على جميع الأصعدة، دون أن نغفل عن حليفتها الصين الساعية إلى تسيد العالم اقتصاديا وسياسيا، أما دول أوروبا الغربية فلديها ما يكفي من التحديات الداخلية، من أزمة كورونا الصحية والمناكفات السياسية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وحاجة الكثير من دولها إلى الغاز الروسي…

أنا لا أبرر لروسيا خرقها القانون الدولي وغزوها دولة مستقلة ذات سيادة مثل أوكرانيا، لكن بالمقابل لا اعتقد أن الولايات المتحدة كانت ستقبل بنشر صواريخ روسيا في دولة على حدودها مثل كندا أو المكسيك مثلا، ولا زلنا نذكر أزمة الصواريخ بين البلدين في ستينيات القرن الماضي، عندما حاول الاتحاد السوفيتي نشر صواريخ في كوبا، فما كان من الرئيس الأمريكي آنذاك جون كندي إلا أن هدد بمنع هذا الأمر ولو بالقوة، ولو أدى ذلك لإشعال حرب نووية.

لقد حشر الغرب وأمريكا روسيا في الزاوية، خاصة عندما نشروا اسلحتهم في دول مجاورة لها مثل رومانيا وبولندا، فما كان من الدب الروسي إلا أن أظهر مخالبه التي تعمل حاليا أوربا والولايات المتحدة على نزعها من خلال عقوبات اقتصادية موجعة مثل فصله عن النظام المالي العالمي، وحرمانه من المشاركات العالمية على صعيد الرياضة وغيرها، وجعله معزولا منبوذا، وهذا بالفعل ما حصل عندما انضمت حتى دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتركيا لقائمة الدول التي تعاقب روسيا على فعلتها.

لكن حسنا فعلت دول الخليج العربي عندما اختارات الوقوف على الحياد من هذا الصراع قدر المستطاع، فليس على الولايات المتحدة أن تتوقع أن ترفع لها دول الخليج العربي الكرت الأخضر بشكل دائم، خاصة بعد مآسي مثل توقيع إدارة أوباما على اتفاق نووي مع إيران وتغافلها عن الدور التخريبي للملالي في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها.

وقد بدأنا بالفعل نرى دول الخليج العربي تنوع تحالفاتها، خاصة مع دول مثل الصين واليابان وغيرها، فآخر ما يحتاجونه هو إنفاق مليارات الدولارات على سلاح أمريكي مثلا لا ينفعهم ولا يستطيعون استخدامه إلا بموافقة البنتاجون والإدارة الأمريكية.

في بداية ثمانينات القرن الماضي التقيت صدفة بوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، ثعلب عصره وكل العصور، ومهندس السياسة الخارجية الأمريكية حتى الآن كما اعتقد، هنري كيسنجر، رأيته حينها في بهو فندق المأمونية الشهير بمدينة مراكش المغربية برفقة زوجته، هرعت نحوه وسألته مباشرة: لماذا تفعلون هكذا ببلدي لبنان؟ لماذا تتركوه يغرق في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر؟ أنتم يا سيدي لا تكتفون بالتفرج من بعيد على احتراق لبنان فقط، بل تتدخلون أحيانا لصب الزيت على النار هناك إذا شعرتم أنها ستنطفئ. عيب عليكم!

كنت حينها صغيرا في السن ومتحمسا بل وعدائيا معه، لكنه أبدى لي احتراما وتفهما، وقال لي آنذاك جملة ما زلت أتذكرها تماما حتى اليوم، قال: «إنها سياسة بالأمر الواقع، ستفهمها فيما بعد»، واعتقد أن هذه الجملة تصلح عنوانا عريضا للسياسة الخارجية للولايات المتحدة مهما تبدلت إدارات البيت الأبيض وأسماء السياسيين والدبلوماسيين الأمريكيين، لذلك لا عيب في أن تفكر دول الخليج العربي بمصلحتها ومصلحة شعوبها، وتضعها أولا وفوق كل اعتبار.

المطلوب اليوم من جميع الأطراف تقديم تنازلات، مطلوب من أمريكا والغرب ضمان أمن روسيا، كما مطلوب من روسيا سحب قواتها من أوكرانيا. فلا للحرب يا سادة في كل مكان، ولا للاحتلال في أي مكان، ولا شك أن العالم كله يعيش بسعادة أكبر وحرية أكبر عندما لا نهدد بعضنا البعض ونراعي مصالحنا المشتركة.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s