لم أكن أتصور بأن بوتين سينبش الماضي بالطريقة التي فعلها خلال كلمته المتلفزة التي أعلن في نهايتها اعراف بلاده باستقلال إقليمي لوهانسك ودونيتسك عن أوكرانيا، فقد أهان بوتين؛ خلال سرده التاريخي للأحداث التي جرت خلال آخر مئة عام؛ عددا من القادة الروس بينما مجَّد بعضهم الآخر، وكأن التاريخ كما الجغرافية لعبة صغيرة بين يديه يقلِّبها متى شاء كيفما شاء.
لا أستطيع أن أحكم على صوابية أو خطأ قرارات بوتين، وفي الوقع أرى أن الرجل صعب الفهم، حتى أن وجهه يبدو جامدا طوال الوقت خاليا من تعابير الغضب أو الفرح، يوزع نظرات مدروسة وابتسامات بالكاد تلحظها، ويشدد على كلمات ينطقها وكأنك تسمع فيها صوت هدير سلاح نووي، كيف لا وهو خريج جهاز الاستخبارات الروسية الـ كي جي بي، وما أدراك ما هي المخابرات!
ألم يكن لورانس العرب الذي رسم حدود ومستقبل منطقتنا خلال مشاركته في الثورة العربية الكبرى في العام 2016 رجل مخابرات بريطاني؟ ألم تصنع المخابرات الفرنسية الخميني وترسله بطائرة إلى إيران ليقلب نظام الحكم فيها ويقبض الملالي على السلطة منذ ذلك الوقت وحتى الآن؟
ربما تأثر بوتين بالتجربة الألمانية خلال عمله في المخابرات السوفيتية في ألمانيا الديمقراطية خلال الفترة من 1985 حتى 1990، حيث عاين بنفسه كيف تبنى الأمم مجدها ثم تفقده ثم تستعيده ثم تفقده، ولا ننسى هنا أن فترة رئاسة بوتين الأولى جاءت في وقت عانت فيه البلاد من مشاكل اقتصادية وسياسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكيف تداول بعدها مع رئيس وزرائه مدفيدف منصبي الرئاسة ورئاسة الوزراء، قبل أن يتم تعديل الدستور وينتخب في العام 2018 رئيسا للمرة الرابعة.
لنقلَّب مع بوتين فصلا من تاريخ روسيا، عندما تفكك الاتحاد السوفيتي وتولى بوريس يلسن رئاسة روسيا، وما قيل حينها إن صعود بوتين للسلطة لم يكن إلا بأساليب مخابراتية من بينها ملفات أعطاها إلى يلسن لم يستطع الأخير أمام ثقلها إلا أن يسلم السلطة.
ورويدا رويدا أمسك بوتين بكل زمام السلطة والقوة في روسيا، وأصبحت مفاتيح الحكم كلها بيده، وكان دائما يعرف متى يضرب وكيف يضرب، ومن ذلك أن تدخله في سوريا لم يكن شقفة على أهلها، بل تحقيقا لمصالح روسيا ووصولها إلى المياه الدافئة في المتوسط عبر قاعدة حميميم في مدينة طرطوس السورية وتوسعة هذه القاعدة يوميا بعد يوم، وأصبح سيد الموقف هناك بعد أن وضع النظام السوري في جيبه الصغير، ويحاور جميع الأطراف متناقضة المصالح هناك: إيران وإسرائيل وتركيا، ويشغلها ببعضها البعض ويحافظ على مسافة واحدة منها جميعا.
أرى أن بوتين لا يدخل أية معركة عسكرية أو سياسية إلا في إطار حربه الشاملة لاستعادة مجد روسيا، ولا يبدو لي أنه يبحث عن شعبية، فهو مؤمن بنفسيه أكثر بكثير من حاجته أن تؤمن الناس به، ولا أعلم أن كان يمكن تسمية هذا الأمر غرورا أو ثقة زائدة، وقد يكون الاثنين معا، كما أنه سياسي محنك، يعرف بالضبط نقاط قوته وضعفه ونقاط قوة وضعف خصمه.
وإذا أجرينا جردة حساب لنتائج قرارات بوتين الأخيرة بشأن أوكرانيا سنجد أن الرجل رابح على مقاييس كثيرة، فالمال الذي أنفقه وينفقه على تحريك جيشه والمناورات العسكرية عوَّضه أضعافا مضاعفة جراء ارتفاع أسعار النفط والغاز بسبب تلك القرارات ذاتها، والآن هو سجل عدة نقاط دعمت موقفه التفاوضي مع الغرب بشأن توسع النيتو على حدوده، فإن قبل الطرفان تطبيق سياسية التراجع خطوة بخطوة فسيكون على الغرب تقديم تنازلات كثيرة، أما بوتين فسيرجع في أقصى الاحتملات إلى وضع روسيا ما قبل تلك القرارات.
والرجل يستثمر كل نقطة ضعف يراها في محيط روسيا أو في أي مكان من العالم من أجل إعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي، ولم شمل دوله ما أمكن، واعتقد أن أي زعيم مكانه كان سيفعل نفس الشيء، فهذا ما يحدث عادة بالنسبة للدول التي يعتقد قادتها أنها تعيش على أرض مساحتها أقل من طموحها، خاصة إذا كان لهذا الدول إرث تاريخي امبراطوري استعماري.
تركيا اليوم تعاني نفس المرارة وتتغنى وتتحسر على مجد العثمانيين الضائع في القوقاز والدول العربية، وأردوغان تحدث أكثر من مرة عن ما سماه إرث أجداده في سوريا والحجاز وحتى أنه استخدم ذلك مبررا لإرسال قواته إلى ليبيا، ولو كان أردوغان يملك جيش بوتين وقوته النووية لما تردد لحظة في التحرك نحو استعادة ما يسميه أرض أجداده.
الولايات المتحدة الأمريكية ومعها حلف النيتو يريدان بلا شك تعزيز نفوذهم على حدود روسيا لذلك نشروا جنودهم وصواريخهم في دول مثل بولندا، وروسيا بالمقابل ربما سمحت بذلك خلال فترات ضعف مرت بها، لكن روسيا بوتين لن تسمح بذلك الآن، تماما كما رفضت الولايات المتحدة في الستينيات رفض نشر صواريخ سوفيتية في كوبا. ما يجري الآن ليست حربا باردة بلا شك، لكنها في ذات الوقت لن تتحول إلى حرب مدمرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو هل ستعتمد الدول الغربية خيار العقوبات كإجراء انتقامي أم كإجراء رادع لتجنّب الأسوأ؟ وما هي الخيارات المتاحة أمام أوكرانيا تجاه التصعيد الروسي خاصة وأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أكد أكثر من مرة أن بلاده ملتزمة بتسوية سياسية دبلوماسية ولا تستسلم للاستفزازات، لكنّه أيضاً شدد على أن بلاده لن تتنازل عن منطقة دونباس شرق البلاد. وطالبت أوكرانيا الحلفاء الغربيين اليوم بدعمها بالسلاح لمواجهة روسيان وكيف سيكون الموقف الصيني تجاه تطورات ملف الأزمة الأوكرانية إذا ما اتخذت طابعاً كارثياً؟ علماً أنه لطالما أكدت بكين وموسكو على متانة العلاقة التي تجمعهما.
على كل حال لا أعرف فيما إذا ستصدق توقعات حلف شمال الأطلسي التي تتحدث عن هجوم روسي واسع النطاق على أوكرانيا، لكني اعتقد أن المناورات التي يقوم بها بوتين حاليا تمثل ذورة تصعيد بوتين في وجه الغرب، واعتقد أن عقلاء العالم، بما فيهم بوتين نفسه ربما يتبنون سياسة الدفع لحافة الهاوية لكنهم لن يسمحوا أبدا لأحد في الوقوع فيها، فنحن هنا لا نتحدث عن خلاف حدودي بين دولتين في أفريقيا، بل بين قوى نووية عظمى تملك أسلحة قادرة على حرف كوكب الأرض عن مساره.