لن يصدأ أبدًا نشيد «بلاد العُرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى اليمن إلى مصر فتطوان»، وتطوان هي مدينة مغربية، ليست بعيدة كثيرًا عن قرية أرغان الجبلية بضواحي شفشاون شمال المغرب، حيث حدثت قصة هزَّت وجداننا العربي، وذكرتنا بانتمائنا للعروبة بصرف النظر عن اختلاف أدياننيا وطوائفنا ومستوياتنا الحضارية والثقافية والمادية.
لقد تألم الطفل ريان في بئره، فتداعى لألمه ملايين من الشعوب العربية في مختلف دول لعالم، وتقمصوا شعوره وهو داخل بئر محتجز لأيام بعيدًا عن حضن أمه وإخوته وأترابه، وتقمصوا شعور والديه وهما يفتقدان فلذة كبدهما بعد أن ابتلعته الأرض، ودعوا له في المساجد خلال صلواتهم الجماعية، وتبادلوا التعازي بعد وفاته كأنه ابنهم جميعًا.
وقد اهتميت كثيرًا بقصة ريان لأن هذا الصبي يعني لي ما تعني لي عروبتي، لأنه طفل فقيرًا مسكينًا من عائلة شبه معدمة في قرية نائية، وقع في حفرة عميقة بعفويته، ولقد شعرت ومن حولي بفرحة غامرة في الساعات الأخيرة من هذه القصة، وكلما اقترب الحفارون سنتيمتر واحد من ريان كان الأمل يشتد، لكني فجأة صدمت بخبر وفاته عندما أعلنه التلفزيون الرسمي، غالبتني دموعي وانقطعت عن الكلام لبرهة، واعتقد أن هذا كان حال الملايين غيري.
إن قصة ريان درس في الإنسانية لكل المتطرفين الذين عاثوا فسادًا في دولنا العربية. درس لداعش التي قلت ولا زالت الكثير من الأطفال، والأخطر أنها نشرت فكرها المتطرف في صفوفهم، وحولتهم لقنابل موقتة، ولم تتوانَ عن تجنيدهم تحت مسمى «أشبال الخلافة»، كما أن هذه القصة درس أيضا لجميع الأحزاب والميليشيات المتطرفة التي تقتل الإنسان تحت شعار الإسلام، والإسلام منها بريء.
قصة ريان درس أيضا للفرس والأتراك وغيرهم، ليتوقفوا عند أبعدها ويدركوا أن انتماءنا العربي ليس صدفة، وأننا أمة حية، قد نتقهقر لفترة ولكننا نعود دائمًا أقوى، نلتئم ونلتف حول بعضنا البعض في السراء والضراء، وأن ما يحدث في أقاصي المغرب العربي تجد صداه في المشرق العربي، وكما قال الشاعر حافظ إبراهيم «إذا ألمت بوادي النيل نازلة، باتت لها راسيات الشام تضطرب».
قصة ريان ذكرتنا أن فرنسا لم تنجح بانتزاع المغرب من حضنه العربي رغم احتلاله لأكثر من مئة عام، كما لم تنجح محاولات العثمانيين طمس اللغة العربية واستبدالها بالتركية رغم احتلالهم دولنا العربية لاكثر من 400 عام، ونحن نرى مثلاً أن الأدباء والمفكرين العرب الذين هاجروا إلى بلاد الاغتراب في الأمريكتين الشمالية والجنوبية مثل جبران خليل جبران وغيره لم يتخلوا عن لغتهم العربية، وكان أروع نتاجهم الأدبي بها رغم اتقانهم لغات الدول التي هاجروا إليها.
أنا أيضًا على الصعيد الشخصي، ورغم اتقاني الإنكليزية والفرنسية، إلا أنني لا أحبذ الحديث إلا بالعربية، ولا أشعر بالسعادة إلا عندما استخدم مفرداتها، حتى أن الأفكار تدور داخل رأسي بالعربية، وأرى أن المجالس التي يتم الحديث بها بالعربية أكثر دفئا وحميمية وارتباطاً بالتاريخ والحضارة، فالله سبحانه وتعالى اختار أن ينزل كتابه الكريم على آخر الأنبياء والمرسلين باللغة العربية، ولا تجوز صلاة المسلمين على اختلاف أعراقهم إلا بها، ونفهم كيف أن فرنسا مثلا حاولت محاربة هذه اللغة من خلال نشر الفرانكفونية، لكننا نستغرب هذا الفعل من مسلمين مثلنا، مثل الفرس والأتراك.
لقد رأيت العالم العربي يبحث من خلال محنة الطفل ريان عن قصة ملهمة تكون نهايتها مفرحة وسط الخيبات التي نعيشها، وقد مات ريان رحمه الله بعد أن وحد العالم العربي وجمعه لأيام على قضية إنسانية بعيدة عن أي صراع أيديولوجي أو خلافات سياسية. وأصبحت عملية الإنقاذ البطولية التي استمرت 5 أيام متواصلة بحد ذاتها قصة ملهمة تحظى بالتفاعل، وقد ساهم صمود ريان في إضفاء بعد أكبر على ملحمة عربية شعارها «إنقاذ ريان».
فبين فرحة إخراج الطفل ريان من قعر البئر في عملية إنقاذ صعبة ومعقدة استمرت عدة أيام وبين إعلان وفاته رسميا، أصيب المغاربة ومعهم ملايين العرب بالذهول والصدمة وعدم التصديق، وكانت اللحظات الأخيرة لإخراجه عصيبة، حيث كانت عيون ملايين المشاهدين العرب عبر العالم مشدودة للشاشات خلال أربعة أيام من الجهود المتواصلة والحفر الدقيق والبطيء، للوصول إليه في البئر التي سقط فيها على عمق 32 مترًا وقطر حوالي 45 سنتيمترًا.
وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى بيت عزاء مفتوح، يتبادل فيه رواده من مختلف الدول العربية التعازي، بعد وفاة طفل جمعتهم قصته المأساوية ووحدهم الأمل في خروجه من جوف البئر سالمًا معافى، كما نعى الطفل ريان الأمراء والرؤساء والوزراء والفنانون والمثقفون العرب في تدويناتهم وتغريداتهم، وألهمت حالة التعاطف التي سادت الشارع العربي بعض الفنانين فجسدوها في أعمال فنية بين جرافيتي وكاريكاتير وغيرها.
رأيت بعض الأصدقاء متحاملين على السلطات المغربية، يتهمونها بالتقصير في إخراج ريان من الحفرة بأساليب وأدوات بدائية، كما أنها لم تطلب العون من دول قريبة لها مثل أسبانيا أو إيطاليا، لكني لم أنظر إلى الموضوع من هذه الزاوية لأنني رأيت كم هي عملية إخراج الطفل معقدة ومحفوفة بالمخاطر، حتى أن خبير حفر الآبار «عم علي» الذي أصبح نجما بعد هذه الحادثة اضطر مع زملائه في بعض الأحيان لحفر التربة بأصابعه كي لا يصيب ريان بأذى، واستمر العمل ليل نهار دون توقف واتخذ طابعًا احترافيًا.
لقد أيقظ ريان جمرة التضامن بين أرجاء الأمة العربية، الجمرة التي خرجت من تحت رماد، وما من طفل في العالم العربي، إلا وصار موضع عطف وخوف من أن يكون ضحية لخسران، ومن المخجل أن نتوقف عند قصة ريان فقط رغم مأساويتها، فهناك أطفالاً في سوريا ولبنان واليمن والعراق يعيشون ويلات حروب فرضتها عليهم تدخلات خارجية، وحريٌ بنا محاولة إنقاذهم. فقد بعث فينا ريان الضمير العربي من جديد، وحرك وجدانا العربي المشترك، وأرجو أن تكون قصته بداية صحوة عربية.