ضاع العالم لسبع ساعات

لم أكن أتوقع أو أفكر بأي وقت من الأوقات أن وسائل التواصل الاجتماعي الأكبر في العالم مثل فيسبوك وإنستغرام وواتساب هي بهذه الأهمية لمليارات من البشر حول العالم حتى حدث ما حدث يوم الإثنين الماضي وتعطلت هذه الوسائل لسبع ساعات بدى العالم خلالها وكأنه قد ضاع بالفعل!

على الصعيد الشخصي شعرنا بفراغ كبير، وكأننا في غرفة بدون النوافذ التي اعتدنا أن نرى العالم من خلالها، شعرنا بالوحدة نتيجة عدم قدرتنا على التواصل مع أصدقائنا، وبالقلق نوعا ما لأن أخبارهم انقطعت عنا، شعرنا بأننا افتقدنا شيئا اعتدنا على استخدامه لمرات ومرات في مختلف أوقات اليوم، وفي كل الأيام.

لقد تسللت هذه المنصات إلى حياتنا وأعمالنا بشكل كبير، وباتت تسيطر على الجانب الأكبر منها، حتى أن الدوائر الحكومية في العالم أصبحت تقبل أخذ البيانات والطلبات عبر تطبيق واتساب، وكثيرًا من الشركات وخاصة الكبيرة منها اعتمدت هذا التطبيق كوسيلة تواصل أساسية مع عملائها، وأصبحنا ندرك أكثر أن منصات التواصل الاجتماعي باتت قوة لن نستطيع الاستغناء عنها.

لقد كانت خسائر فيسبوك جسيمة بسبب هذا التعطل، فقد خسر الموقع الأزرق 60 مليون دولار في كل ثانية، وخسر مالكه مارك زوغيربيرع أكثر من 6 مليارات دولار من أسهمه، مقابل ارتفاع أسهم منصات أخرى مثل تيلغرام وسيغنل، لكن يمكن القول إن أسهم قطاع التكنولوجيا كلها تضررت، لأن المستثمرين الذين أصيبوا بالصدمة من تعطل المنصات والبطء في إسراع الخلل الذي استمر لساعات أدركوا أن هذا القطاع يحمل الكثير من الفرص والتهديدات في الوقت ذاته، وغير مستقر كما هو الحال في قطاع الطاقة أو الصناعة أو الضيافة مثلاً.

وقرأت العديد من المقالات واستمعت لآراء حول مدى تأثر البحرين بهذا الانقطاع، وفيما إذا ترتبت خسائر على الأعمال والمؤسسات وما هو حجمها، وأعتقد أن الخسائر نجمت أساسا عن تعطل الأعمال وتأجيلها، خاصة بالنسبة للشركات والموظفين الذين يعتمدون على واتساب والمجموعات في التواصل وتسيير العمل، وهناك شركات تقدم خدماتها عبر واتساب طلبت من عملائها التوجه لتطبيقها الإلكتروني، وإذا كان من الصعوبة قياس الخسائر حتى لو كانت ضمن نطاق محدود، فإن الدرس الأهم الذي يجب أن نتعلمه هنا هو ضرورة توفير بدائل محلية أو خليجية لقنوات التواصل الاجتماعي العالمية من خلال دعم المشاريع التقنية التي يقوم عليها الشباب الخليجي والعربي، تمامًا كما فعلت وتفعل دول مثل الصين وألمانيا وغيرها.

وإن تعطل المنصات فتح أعيننا أكثر على مخاطر ما يمكن تسميته بـ«إدمان منصات التواصل»، وقد استمعت إلى تصريحات الموظفة الكبيرة السابقة في فيسبوك السيدة فرانسيس هوغن، حول أن فيسبوك تعطي الأولوية للأرباح على حساب أمن ورفاهية مستخدمي منصتها، وتحدثت عن التأثير السلبي لخدمات مثل إنستغرام، ويضاف هذا إلى مساوئ إدمان الإنترنت التي قد تؤدي إلى عواقب وخيمة من بينها التأثر السلبي على الصحة النفسية والجسدية، والاستغلال المالي والجنسي، والاكتئاب وربما الانتحار.

لكن هذا لا يعني أنه يجب أن نتجنب شبكات التواصل الاجتماعي وكأنها رجس من عمل الشيطان، حيث إن حال هذه الشبكات كحال جميع الاختراعات في تاريخ البشرية، فالراديو كان وسيلة للتثقيف كما كان أيضا وسيلة للتحشيد وبث الكراهية عندما استخدمه هتلر ووزير إعلامه غوبلز في الدعاية النازية، ثم جاء التلفاز كوسيلة لتلقي الأخبار والترفيه أو إضاعة الوقت.

وقد سمعت قصة شخص اتصل برجل دين عبر بث مباشر من خلال التلفاز وسأله عن حكم تركيب الستالايت في المنزل، فأجاب الشيخ إنه كان أول من ركب هذا الجهاز في منزله، وهنا استغرب المتصل وقال: هل تقول إنه لديك ستالايت فيه قنوات خلاعة وانحلال في منزلك يا شيخ؟ فرد الشيخ: نعم، ولدي أيضا سكين في المطبخ، يمكن أن تستخدم في تقطيع الفاكهة، أو في قتل إنسان، والخيار لك انت وليس لها.

أعرف أنه ليس من السهل كسر العادة الرقمية الأكثر شيوعا في العالم، وهي تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تبين أن الإقلاع عن هذه العادة ليس سهلاً، إلا أنه يجب الحرص أيضا على قضاء المزيد من الوقت مع الأصدقاء والعائلة، فالاعتدال والتوزان هما سر السعادة في الحياة، ويجب أن يحرص الإنسان على أن يبقي دماغه مسيطرًا على الأشياء من حوله، وليس العكس.

أنا رجل إعلانات عملت في هذا المجال على مدى أكثر من أربعين عامًا، وأدرك تماما معنى التواصل بين الناس والأسواق، ففي سبعينات القرن الماضي كان تصميم بوستر إعلاني لشركة طيران الخليج هو مشروع قائم بحد ذاته ورسالة تسويقية تعيش لسنوات وتنتشر حول العالم، أما اليوم فلا يخفى على أحد كيف سيطرت قنوات التواصل الاجتماعي على سوق الإعلانات، حتى بات كثير من الشركات يخصص أكثر من نصف ميزانيته الإعلانية للترويج عبر الإنترنت، بما في ذلك خدمات جوجل الإعلانية.

سألني أحد الأصدقاء: هل يعني هذا أن عصر الإعلان الورقي أو عبر التلفزيون أو اللوحات الطرقية مثلا قد انتهى؟ أجبت إنها مسيرة الحياة وتطور أي صناعة، حتى في الحروب تمكنت الدولة العثمانية الناشئة من اكتساح أجزاء واسعة من أوروبا وآسيا لأن جيشها كان يستخدم المدفع بفاعلية، لكن أفراد الجيش لم يستغنوا تماما عن البنادق، ثم كانت الدبابة التي اكتسح بها هتلر أوروبا، بمساعدة من المدفعية طبعا، ثم الصواريخ البالستية والطائرات وحاليا الطائرات بدون طيار.. وهكذا، وهذا يعني أن أية وسيلة إعلانية جديدة لن تلغ القديمة تماما، بل تعمل وتتكامل معها.

جميع ما سبق يقودنا إلى نتيجة مفادها ضرورة التأكد من أن أبناءنا يتقنون التعامل مع التكنولوجيا والاستفادة منها، حيث باتت التقنيات الحديثة في صلب العمل والتطور مهما اختلفت مجالاته: الهندسة والمحاماة والتجارة والطب وغيرها، حتى أن الأدباء والرسامين والفنانين بشكل عام لن يتمكنوا من الانجاز والابتكار والانتشار كما يجب إذا كانوا لا يدركون أو لا يعرفون كيف يتعاملون مع التكنولوجيا ويتابعون تطورها.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s