ما أتعس الرجوع إليه

ليس هناك أي مبرر منطقي مفهوم لما حدث مؤخرًا في أفغانستان، ولماذا جرى إهدار كل هذه الأرواح حتى من الجنود الأمريكيين وكل هذه الترليونات من دولارات دافعي الضرائب الأمركييين دون تحقيق أي فائدة تذكر، ومن غير المعقول أن الولايات المتحدة الأمريكية بأجهزتها الدبلوماسية والاستخبارية العملاقة لم تستفد من دروسها السابقة في دول مثل فيتنام والعراق، والأسوأ من ذلك أنه من المرجح أن ساسة واشنطن ربما يكررون هذا المأساة في دول أخرى حول العالم مستقبلاً طالما أن التاريخ يعيد نفسه دون أن يتعلموا منه.

من البديهي القول إنه كان من الأفضل أن تصرف هذه الجهود والمليارات على الشعوب لتحسين معيشتها، وبعد ذلك حتى من كان من طالبان سيغير تفكيره ويعرف أن الحياة فيها كثير من رغد العيش، وأن العمل المنتج أفضل له بكثير من الحروب وقتل الآخرين، لكن يبدو أن أمريكيًا كدولة لم تفهم حتى الآن أنها لن تستطيع أن تربح حربًا إلا إن ربحت قلوب الناس، وأفغانستان أحدث برهان على ذلك.

فكيف تقبل أمريكا على نفسها أن تدخل في أتون صراع تضيع فيه هذه الأرواح والأموال إذا لم تكن متأكدة أنها ستنجح في خلق فرص جديدة للحياة أمام الشعب الأفغاني وتخلصه ممن يسمون أنفسهم المجاهدين وهم في الواقع مجرمين مخربين ليس إلا. 

لكن التفكير الأمريكي معقد ولا أستطيع فهمه صراحةً، والقرار الأمريكي يستند في جوانب كثيرة منه لاعتبارات انتخابية غوغائية قصيرة الزمن طالما أن إدارة البيت الأبيض تتغير كل أربع أو ثمان سنوات، لكني أستطيع تذكر مقولة لثعلب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر عندما قال «إن تكون صديق أمريكيًا شيء، وأن تعتقد أن لأمريكا أصدقاء شيء آخر».

فالإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ جورج بوش الابن وحتى اليوم وضعت أهدافا قصيرة المدى لتتمكن من إعلان نجاحها عند مغادرتها، ولأهداف انتخابية، بينما كان يجب تخصيص وقت لجهود إعادة الإعمار مع الاهتمام بالتحديات اللوجستية التي يشكلها هذا البلد الذي مزقته الحروب الأهلية والإثنية والطائفية.

كما أن الولايات المتحدة وجيشها العتيد لم يستطيعوا كسب شعبية وشرعية حقيقية للرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني، كما أن الفهم الأمريكي للولاء الذي يشترى بالمال قاصر، فهذا ربما يصح في أمريكا البرغماتية فقط، لكن الشعوب في كثير من بقع العالم تتصرف خلافا لذلك، خاصة إذا كان الشعب مشبع بإيديولوجية دينية متطرفة يعتقد معها أن لا شيء يحول بينه وبين دخول الجنة سوى أن يفجر نفسه في «تجمع للكفار»!.

هل صحيح أن انسحاب أمريكا من أفغانستان خلق ضغط حقيقيي على كاهل الصينيين والروس وطالبان؟ في الواقع اعتقد أن هذه الدول ستستفيد من هذا الوضع. وعلى كل حال هناك من يقول «عندما تتصارع الفيلة يداس العشب»، وإذا كان هذا صحيحا أليس من الأفضل أن تعمل أمريكيا على خلق نموذج أفغاني للحكم الرشيد يسوده التنمية والتطور كما فعلت مع اليابان مثلا؟ ألا تقدم بذلك مثالا لشعوب العالم أجمع على أنها دولة مؤهلة لقيادة البشرية؟.

ففي حين تدعم دول العالم بما فيها دول الخليج العربي الاستقرار الأفغاني من أجل تنمية التجارة الإقليمية، ومكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المخدرات، ومنع الهجرة غير النظامية، ترى بلدان أخرى في عدم الاستقرار فرصة لتوسيع مجالات نفوذها، ومن الواضح أن دول مثل باكستان وتركيا وإيران إلى توسيع نفوذها عبر تشكيل مجموعات أو استغلال تأثيرها على طالبان.

ورغم أن قرار الانسحاب يبدو فعلاً صائبًا بوصفه أفضل الحلول العملية المتاحة أمام الرئيس بايدين، ويرضي جزءًا كبيرًا من الطبقة السياسية والشعب الأمريكي، إلا أنه في الوقت ذاته فشل أخلاقي كبير، ومشاهد الأفغان الموالين لحكومة غني ولأمريكيا وهم عالقين في المطار ومعلقين على الطائرات العسكرية الأمريكية يندى لها جبين الإنسانية، خاصة وأن الولايات المتحدة تقدم نفسها راعيا لحقوق الإنسان في العالم.

لقد تركت أمريكيا أفغانستان في فوضى عارمة، وإن سيطرة طالبان على أفغانستان خلال ما يزيد قليلا عن أسبوع يثير احتمالية سيناريو مشابه للحرب الأهلية التي اندلعت عقب الانسحاب السوفيتي من البلد ذاته عام 1989، ومن المحتمل أن نشاهد اليوم تصاعدًا كبيرًا في عدد العمليات الإرهابية من تنظيم «القاعدة» و«داعش» تمتد لخارج حدود أفغانستان، مستفيدة من البيئة الخصبة للتطرف والإرهاب في هذا البلد.

لقد رأى المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان جون سوبكو في رسالة انفعالية عن أسباب الوضع «القاتم» في البلاد أنه كان لدى الولايات المتحدة «الغرور للاعتقاد بأننا نستطيع أن نأخذ هذا البلد الذي كان في حالة خراب في 2001 ونجعله نرويجًا صغيرة»، وأضاف سوبكو المكلف منذ 2012 من قبل الكونغرس بمراقبة استخدام الأموال الأمريكية في هذه الحرب «وصلنا إلى أفغانستان بفكرة تشكيل حكومة مركزية قوية وكان ذلك خطأ». وأعرب عن أسفه لأن الخبراء كانوا يعرفون أن هذا البلد ليس مناسبًا لبنية حكومية من هذا النوع لكن «لم يستمع إليهم أحد».

وإن ميل الولايات المتحدة إلى إعطاء الأولوية للمكاسب العسكرية في أمد قصير بدلا من بناء مؤسسات ديموقراطية حقيقية أو حماية حقوق الإنسان، وجه ضربة قاضية للمهمة الأمريكية وكل جهود إعادة الإعمار بعد 2001، كما أن استياء السكان وانعدام ثقتهم في الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية، سمحا لطالبان بتحقيق مكاسب.

 أعتقد أن من أهم دروس ما حصل في أفغانستان هو تراجع الثقة في النموذج الأمريكي والديمقراطية، فمن المقولات التي راجت في غضون الغزو الأمريكي لأفغانستان ثم العراق، المجادلات التي طرحها منظرو نظرية الدومينو الديمقراطي، والذين أشاروا إلى أنه إذا أطاحت الولايات المتحدة الأمريكية بالأنظمة الاستبدادية، وأنشأت نظامًا ديمقراطيًا مواليًا للغرب فيها، فإن ذلك سيجعل الأنظمة الاستبدادية الأخرى تسقط مثل قطع الدومينو، ولقد طُرحت هذه النظرية باعتبارها التبرير الأساسي للحرب، خاصة من جانب المحافظين الجدد في ظل إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، والآن مع سقوط أفغانستان، يتأكد أن هذه الأفكار لم تكن سوى أمنيات كارثية.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s