تحتاج المرأة لتسعة أشهر من الحمل حتى تضع مولودها، ولا يمكن لتسعة نساء أن يضعن مولودا في شهر واحد. ويحتاج هذا المولود لوقت وجهد وتعب حتى يكبر وينضج ويصبح قادرا على جمع ثروة، ومن المستبعد جدا جدا جدا أن يصبح مليونيرا من خلال ورقة يانصيب أو المتاجرة بالعملات الرقمية.
لا شك الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بما فيها اليوتيوب فتحت أعين هذا الجيل على أوجه حياة عصرية لم تكن متاحة لنا في طفولتنا وشبابنا، وباتت سيارات لاعب كرة القدم كريستيانو رونالدو أو قصر رجل الأعمال إلون ماسك أو طريقة عيش نجوم السوشال ميديا هي محط أنظار كثير من الشباب الذي بات رغبا بشدة في تقليدهم والعيش مثلهم.
لكن كيف السبيل إلى ذلك؟ الانترنت أيضا يجب على هذا السؤال من خلال القليل من الطرق الرصينة للدارسة وبناء السمعة والتطوير المهني، والكثير الكثير من الفقاعات والتغرير واستلاب العقول.
كل هذه الأفكار جالت في خاطري وأنا اتابع قصة الصعود الصاروخي والهبوط المدوي للعملات المشفرة مثل بتكوين وغيرها، وكيف رفعت هذه العملة العديد من الناس إلى أعلى، فيما هوت بالكثيرين إلى أسفل سافلين، وقد قرأت عن شخص تركي قرر المجازفة بكل شيء طمعا بالربح السريع من العملات المشفرة، فرهن بيته وسيارته وجميع ما يملك واشترى نوعا من تلك العملات، لكنها عكست مسارها الصاعد بعد ذلك وبدأت بالانحدار حتى خسر كل شي، فما كان منه إلا أن انتحر بإطلاق الرصاص على رأسه، نعم، انتحر.
ربما لم أعد شابا في مقتبل العمر قادر على الإلمام بجميع تفاصيل نشأة هذه العملات وتعدينها وتداولها وأسباب صعودها وهبوطها، وربما ذلك يدفعني للوقوف في صف عملاقة المستثمرين مثل وارن بوفيت من الذين حذروا من مخاطر هذه العملات، وصراحة أنا أعتقد أنها في نهاية المطاف ليست إلا لعبة قمار، في كل مرة يأتي “الراس الكبيرة” المتحكم بتفاصيل اللعبة من خلف الستار ويقول “صولد”، ويمسح جميع ما على الطاولة من مكاسب، فيما يعود باقي اللاعبين بخفي حنين.
اتصل بي أكثر من صديق يسألني عن رأيي في التجارة بالعملات المشفرة، وبعضهم استثمر بالفعل في هذه العملات، فأخبرتهم أنني أعتقد أن العوائد التي يتم الحديث عنها مبالغ فيها، وتنطوي على مخاطرة كبيرة جدا، ونصحتهم بدخول هذا المجال فقط إذا كان لديهم مئة أو ألف أو مئة ألف دولار لا يريدونها، ولن يتأثروا نهائيا إذا خسروهها كلها.
الأخطر برأيي في هذه التجارة هي أنها لعبة خاسرة حتى عند الربح، فعند الخسارة يخرج المستثمر من سوق العملات المشفرة حزينا مكسور القلب على ما فرط، لكن ماذا عند الربح؟ هل سيخرج من السوق برأس ماله مضافا إليه هامش الربح، أو بهامش الربح فقط، أو أن طمعه سيدفعه إلى مضاعة الاستثمار أملا بمضاعفة الربح؟ اعتقد أنه سيتخذ القرار الثاني، وبالتالي ستكون أرباحه وهمية أو غير متحققة على أقل تقدير، حتى يأتي وقت تهوي فيه السوق للحضيض وتتبخر أرباحه المتراكمة ورأس ماله أيضا، فيقعد ملوما محسورا.
إن من يقفون خلف اختراع العملات الرقمية أو المشفرة يشبهون كثيرا جامعي الأموال التقليديين الذين عايشنا بعضهم هنا في البحرين وفي أماكن كثيرة في المنطقة، أو سمعنا عنهم أو قرأنا قصصهم، حيث يستدرجون الناس إليهم من خلال إغرائهم بالربح السريع الهائل، ويصدقون معهم في أول معاملتين أو ثلاثة، وعندما تنضج الكعكة ويصبح عدد كبير من الناس داخل الشبكة يتبخرون فورا مع ما جمعوه من أموال.
وفي كل دورة زمنية تظهر وسيلة ما لاستلاب عقول الناس وأموالهم، وقد حدث ذلك حتى في أسواق المال والبورصات عندما ارتفعت أسهم وبادر بعض الناس حتى إلى بيع مصاغ زوجته من أجل الاستثمار فيها، لكن سرعان ما تبخر كل شيء فجأة، وطارت الطيور بأرزقاها، تاركين المغفلين خلفهم يفترشون الأرض وربما العراء.
إن بناء الثروة عملية لها أصول ثابتة، من أهمها العمل الجاد والكفاح المستمر، وربما يحصل الإنسان على ثروة جراء ورث أو ربح أو ارتفاع كبير في قيمة الأصول التي يملكها، لكن هنا تبرز أهمية المحافظة على هذه الثروة الجديدة وتنميتها، وهذا أيضا يطلب دارية وعمل جاد وجهد، وإلا فالجهد سيكون في بعثرة هذه الثروة وتضييعها في أمور تافهة.
لا بأس من الدخول في استثمارات عدة، بل يجب ذلك على كل إنسان يرغب في تنويع مصادر دخله، سواء أكانت استثمارات فردية أو بالشراكة مع الآخرين، وهنا يجب التأني في دراسة المشروع الاستثمار وما تود الاستثمار فيه قبل إقدامك على استثمار أموالك حتى لا تضع سدى، ويجب أيضا تجنب الديون ما أمكن، والتفريق بين الدين الجيد والدين السيئ، فالدين الجيد الذي يساعدك على تنمية ثروتك هو مطلوب مثل طلب قرض من بنك لتقوم بتوسيع مشروعك التجاري، أما الدين السيء فهو طلب القرض من أجل شراء كماليات الحياة.
إن عصر المعلومات الذي نعيشه جعل الكثيرين ينشغلون بهواتفهم النقالة ويبحرون في الانترنت مع خيالاتهم مبتعدين عن واقعهم وظروفهم الأسرية والمادية والاجتماعية، لكن هذا العصر له جانب إيجابي أيضا، ويمكن استثماره في تكوين ثورة، وذلك من خلال التعليم الذاتي، واستلهام الأفكار الجديدة، وبناء شبكة علاقات، وبيع المنتجات والخدمات عبر الانترنت في أسواق محلية وإقليمية وعالمية.
وإذا كان من كلمة سر تقترن بالنجاح فهي الصبر، وقد أدركت طيلة مسيرة حياتي المهنية أهمية التحلي بالصبر في مواجهة التحديات، وعدم اليأس. لقد بدأت حياتي المهنية في توصيل الأغراض من البقالة لربات المنازل في بيروت، بعدها قليلا أصبحت بائعا متجولا أطرق الأبواب عارضا بضاعتي على أصحاب المنازل، وكنت دائما على استعداد لأطرق الباب رقم 10 أو 50 أو حتى 100 بنفس الهمة والحماسة والابتسامة حتى لو أغلقت في وجهي جميع الأبواب التي طرقتها قبله.