في العام 1989، عقدت شركة نيفيا؛ إحدى عملاء بروموسِفِن الكبار في ذلك الوقت، مؤتمرها السنوي في برلين، وكجزء من هذا الحدث اصطحبنا القائمون على الشركة في جولة لمشاهدة معالم المدينة الأكثر إثارة للاهتمام، وزرنا برلين الشرقية.
عبرنا جدار برلين الشهير من نقطة تفتيش، وشاهدنا تغيير الحراس على الجانب الأمريكي والسوفياتي على حد سواء، ونحن في برلين الشرقية بدت لنا بوضوح معالم البؤس والفقر، فهم بدون شك يئنون من وطأة الشيوعية، وكان الدليل الذي رافقنا يتكلم وكأنه إنسان آلي عن بطولة الحزب الشيوعي والنظام السوفياتي والإنجازات التي حققتها للمدينة، غير أننا كنا نشعر أن بداخله كلام آخر.
كانت حركتنا هناك مقيدة، وسُمِح لنا فقط برؤية عدد محدود من المعالم، تشمل أهم متحف فرعوني خارج مصر يضم تمثال نفرتيتي، ولم يكن مسموحا لنا التجول في جميع أنحاء المدينة إلا في الحافلة ومع الدليل السياحي. ولم يسمح لنا أيضا بالتحدث إلى المواطنين العاديين.
في آخر يوم لنا في برلين من مؤتمر نيفيا، كنا مدعوين إلى مطعم مشهور جدا في ألمانيا لحضور العشاء الوداعي، كان ذلك يوم 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989، وبعد أن قدموا لنا الحلويات ما بعد العشاء، فجأة توقفت الخدمة في المطعم، وبدأ المضيفين وزوار المطعم الآخرين من الألمان الغناء بأغان ألمانية حماسية، والكل يصرخ “أسقطنا الجدار أسقطنا الجدار”. وأخبرونا أنهم لن يستطيعوا أن يخدمونا بعد ذلك وإنهم ذاهبون إلى الجدار ليشاركوا في هدمه.
انضممنا إلى الحشد، كان مشهدا مليئا بالفرح والحزن في آن واحد، فالألمان الشرقيون يكسرون الحائط وهم لا يصدقون، والألمان الغربيون يفعلون الشيء نفسه، بينما تأتي سيارات بكثافة من برلين الشرقية إلى الغربية ويضيفهم الغربيون الشمبانيا والفواكه، وشرع الألمان الشرقيين يتدفقون على محلات الطعام الغربية كمكدونلادز وغيرها، حتى أنهم أفرغوا برلين الغربية من الطعام والشراب تقريبا، وكأنه مشهد لمدينة ضربها الجراد، كان في الواقع مشهدا عاطفيا جدا جدا.
انتقلنا إلى الجانب الشرقي من برلين، ولم يعد الكثير منا إلى الفندق حتى الساعات الأولى من الصباح، اكتشفنا حينها كم كانت الحياة بائسة في ألمانيا الشرقية، خاصة في الليل. وفي الصباح لم نجد أثرا لأي من الجنود الأمريكان أو الروس على طرفي مكان الجدار.
قلت لنفسي مبتسما: “يا ليتني أجد دليلنا الذي كان معنا هذا الصباح لأتحدث معه وأعرف ما هو شعوره الآن”.
أحضرت معي قطعة حجر من جدار برلين الذين حطمه الألمان من جانبي برلين، ولا زلت احتفظ بها في مكتبي حتى الآن، وكلما نظرت إليها أفكر في مزيج البلاهة والغباء والتسلط والإجرام الذي يمارسه أولئك الذين يعملون على تقسيم الدول والمجتمعات ووضع حواجز مصطنعة بين الناس تحت ذرائع إيديولوجية أو دينية أو طائفية أو إثنية، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا تحقق سعادته ولا يستطيع التقدم والإنجاز إلا إذا اندمج مع أخيه الإنسان.
إن فكرة “عالم بلا حدود” تدعوا لإلغاء أي حواجز مصطنعة أو قانونية تمنع فرداً من السفر من بلد لآخر بسبب انتمائه لجنسية معينة أو عرق أو دين معين، وتنادي بضرورة السماح للبشر بالتنقل للعيش والعمل ضمن أي بيئة أو مجتمع يرغبون في الانضمام إليه، الأمر الذي عززه عصر الإنترنت حيث سهل التواصل الكبير بين البشر من مختلف دول العالم.
الولايات المتحدة الأمريكية بنت مجدها وعظمتها أساسا على تدفق مختلف أصناف البشر إليها من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال والبرازيل والدول العربية وغيرها، واللاجئون اليوم في ألمانيا يخدمون اقتصادها وينقذونها من الشيخوخة، دول مثل كندا أيضا تدرك مدى أهمية استقطاب العاملين المهرة في مختلف الأنشطة.
بينما أعادت بريطانيا رسم حدودها مع الاتحاد الأوربي، في توجه يخدم المغالين في قوميتهم، لكن جميع البريطانيين الآن يدفعون الثمن. تراجع الاقتصاد وارتفعت معدلات البطالة وتراجعت التجارة وارتبك أصحاب الشاحنات وتأخرت لندن كمركز مالي عالمي.
بعض الاقتصاديين يقولون إن العالم سيحقق زيادة بنسبة 50% مما ينتجه الاقتصاد العالمي حالياً في استقطبت الدول الغنية عمالة الدول النامية، وسبب ذلك بسيط ومعقد في آن واحد ويختصر بجملة واحدة: الإنتاج الاقتصادي للفرد يعتمد على الموقع الجغرافي أكثر من المهارة الشخصية.
الانترنت ألغت الحدود بين الدول، وبإمكان أي شخص جالس في الهند أو مصر أو إندونيسيا مثلا ولديه اتصال مع الانترنت أن يقدم خدماته في مجال التصميم أو البرمجة أو كتابة المحتوى لشخص أو شركة أخرى تعمل في بلجيكا أو كندا، وأصحاب الثروات الكبار حول العالم الآن مثل مارك زوكربيرغ صاحب فيسبوك وبيل غيتس صاحب فيسبوك وجيف بيزوس صاحب أمازون صنعوا ثرواتهم الهائلة من الانترنت، ليس من السوق الأمريكي فقط، بل من أسواق العالم قاطبة، فكل حركة تجارية في أي مكان في العالم عبر فيسبوك أو أمازون يذهب جزء من ريعها لصالح تلك الشركات.
هل احتاج للحديث أيضا عن النقل الجوي نظام “هايبرلوب” الذي يستخدم الارتفاع المغناطيسي بالسفر شبه الصامت ومن المتوقع معه أن تستغرق الرحلة بين نيويورك وواشنطن 30 دقيقة فقط، وبذلك سيكون ذلك النظام أسرع بمرتين من رحلات الطيران التجارية، وأسرع أربع مرات من القطارات الفائقة السرعة. هذا النظام سيكون بالخدمة في العام 2030، أي بعد أقل من عشر سنوات!.
أشارك جان جاك روسو مقولته الخالدة “ولِدَ الإنسان حرا، ومع ذلك فهو مكبل القيود في كل مكان”، وعندما طبق الغرب نظرية “دعه يمر دعه يعمل” نجح في إطلاق حركة بناء صناعي حضاري فكري ثقافي ينعم بها الإنسان هناك الآن، فلا أجمل من الحرية التي تحفز على الفكر والإبداع والخلق والابتكار.
لدي اعتقاد راسخ بأن العالم لن يستطيع مواجهة مشاكله وتحدياته إلا إذا عملت البشرية جنبا إلى جنب، وتكاملت جهود البشر فيما بينهم في جميع بقاع الأرض، وأن آليات العمل الدولي التي جرى وضعها بعد الحرب العالمية الثانية أصحبت الآن بالية، ولا تناسب التحديات الصحية والاقتصادية والتنموية التي تواجهها البشرية، ولا تناسب تطلعات الجيل الحالي نحو المستقبل، فعلى المائدة طعام يكفي الجميع ولا داعي للاقتتال بشأنه.