قصتي مع الحج

3-LO_1196

في صيف العام 1967 تلقيت عرضَ عمل في جدة بالمملكة العربية السعودية، وبعد إقامتي هناك بنحو أسبوعين استدعاني صاحب العمل وطلب مني الذهاب معه إلى الحج، حاولت التملّص منه قائلاً: «أنا شاب صغير ولست جاهزًا ولم أمر بتجارب كافية لمثل هذا الحدث المهم، ربما في العام المقبل». لكنه قال: «أنت ضيفي، والله سبحانه وتعالى أرسلك في موعد الحج لهدف أن تقوم بهذه العبادة كاملة»، ولم يقبل مني الاعتذار.

هذا دفعني إلى التفكير عميقًا، على الرغم من أنني لم أكن على دراية جيدة بجميع تعاليم الدين والعبادة، ولكني كنت من وقت لآخر اختلي بنفسي، أتساءل من أين أتيت وأين سأذهب، في الواقع كانت موادي الاختيارية في الجامعة عن الفلسفة، حتى بعد أن أصرّ السيد عليّ على أن أذهب معه إلى الحج عدت إلى الفندق وبدأت أتحمّس لفكرة الذهاب إلى الحج.

عندما اتخذت قرار الذهاب إلى الحج اجتمعت مع صديقين بريطانيين لي في الفندق، وأخبرتهما بأني عزمت على الحج إلى بيت الله، فاستغربا الأمر لأنهما يعرفان أن ذلك يتطلب التزامًا دينيًا لم يعهداه بي.

الآن بدأت في النظر بداخل نفسي، وبدأت على الأقل محاولة فهم أعمق لمختلف معاني الإيمان. وطلبت من موظف سوداني كبير السن في الفندق أن يخبرني أكثر عن الحج وطقوسه.

أجاب وكأنه شعر بالصدمة: «هل تعني أنك لا تعرف كيف تصلي؟». فرديت: «بالطبع أنا أعرف كيف أصلي، ولكن أريد أن أتعلّم من شخص ذي خبرة مثلك، ولك الثواب على ذلك، كما أن أركان الصلاة ربما تختلف في الحج»، وعندما مدحته قليلاً قال إنه يرحّب بطلبي، وعلى مدى يومين تعلمت كل شيء عن الصلاة، وبقية الفرائض تقريبًا، وجهزت ملابس الإحرام والتحقت بصاحب العمل في رحلتنا إلى الحج.

عندما وصلنا إلى هناك، طلب مني أن ألتحق مع مجموعة من بلاد الشام، وكان لدينا مطوِّف، وبقي هو في خيمة بالقرب من جبل عرفات، وأديت مناسك الحج.

الذهاب إلى هناك كان فيه شيئًا من الرهبة والإبهار، لقد أعجبت جدًا بالمساواة بين جميع الذين كانوا في الحج، كان هناك أشخاص من البلدان والمناطق الفقيرة، نظرت إليهم وسألت نفسي: «نحن جميعًا متشابهون، ولكن هل نحن كذلك بالفعل؟»، ودارت في خلدي الكثير من الأسئلة عندما كنت أسعى بين منى ومزدلفة، وأرمي الجمرات، وأردت أن أعرف هل جميع الناس يدركون معنى هذا بالفعل؟ وكان السؤال الذي يحيرني دائمًا أن هناك معاني عميقة للحج، فهل يعمل الحجاج بها أم أنهم يقومون بها شكليًا دون علم بمضمونها وما وراء هذه الطقوس.

ثم جاء الوقت للطواف حول الكعبة المشرفة، وخلعت حذائي، فيما بعض الأشخاص يرتدون جوارب، كان ذلك في منتصف شهر أغسطس وكانت حرارة الأرض مثل الفرن وأصبت بالبثور في جميع أنحاء قدماي.

أخيرًا، انتهت رحلة الحج، كما انتهت فترة عملي في جدة، وكافأني صاحب العمل بـ1500 دولار، وقد كانت ثروة في ذلك الوقت، خاصة بالنسبة لشاب مثلي.

منذ ذلك الوقت وأنا أراقب حركة التطور الهائلة جدًا في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والتي بدأت مع اكتشاف النفط في السعودية وحرص الملك عبد العزيز رحمه الله وابنائه من بعده على توفير كل ما يلزم لتطوير هاتين المدينتين المقدستين، حتى أن ملوك السعودية سمَّوا أنفسهم «خادم الحرمين الشريفين».

عندما قام سعيد أوباما، عمّ الرئيس الأمريكي الأسبق باراك حسين أوباما، بزيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج عام 2010 قال: «إن إدارة المملكة العربية السعودية للحج وتنظيم الحشود تمثل عملا خارقا ومعجزة سعودية، لا يصدق تحقيقها إلا من رآها رأي العين أمامه على أرض الواقع، في المشاعر المقدسة ومكة المكرمة»، أما السيدة سارة عمر جدة الرئيس أوباما فقد دعت له ولجميع أهالي قريتها في كينيا بالهداية والإسلام.

وكان من المستغرب بالفعل صدور أصوات نشاز إيرانية ساندتها في بعض الأحيان أصوات تركية وحتى خليجية، تدعو إلى تدويل الحج عبر وضع هذه الشعيرة المقدسة تحت إشراف كثير من الدول، وهذه أصوات تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية وليست دينية على الإطلاق، فعلى الرغم من العوائد الاقتصادية الكبيرة للسعودية من موسم الحج والعمرة فإن السعودية تنفق على الحرمين الشريفين ورعاية ضيوف الرحمن أضعافها مضاعفة، ذلك أنها تنظر إلى الأمر باعتباره واجبًا إسلاميًا مقدسًا ورفيعًا.

وفي كل عام وبتوجيهات من حكومة السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين، توجّه وزارة الحج والعمرة الدعوة إلى جميع المسؤولين عن شؤون الحج في الدول العربية والدول الإسلامية والدول ذات الأقليات الإسلامية للقدوم إلى البلاد لبحث ومناقشة ترتيبات ومتطلبات شؤون حجاجهم، حيث يصل عدد هذه الدول إلى أكثر من 78 دولة، ومن بين هذه الدول الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وها هي المملكة العربية السعودية اليوم تتصدى لتنظيم شعائر الحج هذا العام رغم التحديات الهائلة التي فرضها تفشي فايروس كورونا، وتستمر قصة نجاح أخرى في الحفاظ على إقامة هذه الشريعة المقدسة رغم جميع التحديات الصحية في الظروف الراهنة.

أرى في فريضة الحج مقاصد كثيرة، من بينها التذكير بالوحدة والمساواة فالجميع قد طرح الملابس، وظهروا في زي واحد، الغني والفقير، والقوي والضعيف، في وحدة تامة في الشعائر والهدف والعمل والقول، لا إقليمية، ولا عنصرية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، إضافة إلى الصبر والإيثار وتحمل المشاق حيث يأتي الناس إلى الحج من بقاع شتى؛ ولابد للحاج أن يتحلى بخلق الصبر والإيثار.

كما أن الحج يعتبر أكبر تجمع للتعارف في العالم، فالحجاج يأتون من بلدان وقبائل شتى، في مكان واحد جمعتهم أخوة الإسلام، والتعارف بينهم أمر حتمي ـ وإن كانوا من بلد واحد ـ نظرًا لوحدة المكان، وطول المقام، وبهذا التعارف تزداد روابط الألفة والأخوة بينهم، وكثيرا ما يمتد هذا التواصل إلى ما بعد العودة إلى ديارهم، حيث تتواصل مراسلات البر والمعرفة، وتزداد روابط المحبة بينهم.

هل أكرر تجربة الحج مستقبلاً؟ ربما، من يدري، لكن على كل حال، نعم، كان بإمكانكم منذ وقت طويل أن تنادونني الحاج أكرم!

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s