أسمع بعض التذمر هنا وهناك إزاء ارتفاع عدد الإصابات والوفيات بفايروس كورونا في البحرين، وهو أمر محزن بالفعل جاء ليخالف جميع توقعاتنا بأن نكون في مقدمة دول العالم التي تعلن القضاء نهائيًا على الجائحة وتستعيد حياتها الطبيعية كاملة من جديد.
هذا الحزن والإحباط الذي يصيبنا جميعا نتشارك في تحمل مسؤوليته، واستغرب تماما كيف يمكن لأحد ما أن يلقي باللائمة على الفريق الوطني المعني بالتصدي للجائحة. إن هذا قمة الظلم والإجحاف وإنكار المعروف والتنصل من المسؤولية، وكأن ذاكرتنا قصيرة مسحت خلال أيام جميع الإنجازات العظيمة التي قدمها هذا الفريق وقدمتها البحرين على مدى أكثر من عام ونصف.
هل يمكن أن نترك السفينة في قلب العاصفة ثم نذهب إلى غرفة القبطان لنخبره أنه هو من تسبب بالعاصفة وأن عليه فعل كذا وعدم فعل كذا؟ ألا نخشى أن يمل القبطان منا ويركب قاربه ويغادر السفينة تاركا إيانا نواجه مصيرنا المحتوم؟ أليس الأحرى بنا أن نتوزع على ظهر السفينة حتى لا نفقدها توازنها وأن يعمل كل منا على تقديم كل مساعدة ممكنة؟.
هل نحن بحاجة للتذكير بالعطاءات الكبيرة التي قدمتها لنا قيادتنا خلال الجائحة؟ أعتقد أن البعض بحاجة لذلك نعم: لقد كانت البحرين في مقدمة دول العالم جاهزية للجائحة، ووضعت جميع السيناريوهات واتخذت جميع الاستعدادات حتى قبل أن تسجل أول إصابة في البحرين في فبراير 2019، وعندما كان القطاع الصحي في دول مثل إيطاليا وفرنسا وحتى الولايات المتحدة يعاني وينهار، كان كبار السن في البحرين يحصلون على خدمات رعاية صحية وأدوية مجانية تصل لهم حتى أبواب منازلهم.
وتحولت البحرين إلى ورشة عمل لا تهدأ. جرت تهيئة المنشآت الصحية بسرعة كبيرة لاستقبال المصابين المحتملين، حتى أنه جرى تحويل مواقف السيارات في المستشفى العسكري إلى مساحة لاستقبال المرضى مجهزة بأحدث الأسرة ووسائل العناية، وجرى تحويل أرض المعارض لواحد من أكثر مراكز الفحص تميزا وتنظيما على مستوى المنطقة، كما تمت إقامة العديد من المحاجر الصحية ومراكز العزل في الحد وسترة وغيرها من المناطق.
بالتوازي مع ذلك، طلبت الحكومة من المواطنين والمقيمين الجلوس في بيوتهم، وأعفتهم من فواتير الماء والكهرباء والكثير من الرسوم، وتحملت تكلفة رواتب المواطنين في القطاع الخاص، وأعفت المنشآت من الرسوم، وقدمت لها منحا مالية عبر صندوق العمل «تمكين»، وتم تأجيل القروض على الجميع ولا زال متواصلا حتى الآن.
وقامت الحكومة الإلكترونية بجهد جبار اعتمادًا على تقدم البحرين في مجال تقنية المعلومات والاتصالات، وجرى إطلاق تطبيق «مجتمع واعي» سريعًا، وتمكن الموظفون من متابعة أعمالهم من المنزل، وشراء احتياجاتهم والدفع الإلكتروني عبر الانترنت، إضافة إلى إجراء معظم معاملاتهم عن بُعد.
وصولاً إلى مرحلة توزيع اللقاحات، حيث كان البحرين في مقدمة دول العالم التي حصلت على اللقاحات المضادة لكورونا، وتوزيعها على المواطنين والمقيمين بسرعة عبر كثير من المراكز، حتى فاق اليوم عدد الحاصلين على الجرعة الأولى من اللقاح المليون شخص من مواطن ومقيم من أصل مليون ونصف عدد السكان في البحرين، فهل لنا أن نتخيل ضخامة هذا الرقم لو عرفنا أيضا أن النصف مليون المتبقين بينهم مئات آلاف الأطفال وحديثي الإصابة بكورونا الذين يتم تأخير منحهم اللقاح وفقا للبروتوكول الطبي العالمي وأصحاب الأمراض المزمنة الذين لا يتم منحهم اللقاح لأسباب صحية؟.
هذا يعني أن البحرين تجاوزت نسبة الـ70% في منح اللقاحات للسكان، وبتنا قريبين جدا من تحقيق المناعة العامة، أو ما تسمى بمناعة القطيع. لكن لماذا لا تزال أعداد الإصابات والوفيات مرتفعة رغم كل تلك الجهود الهائلة التي بذلت وتبذل حتى الآن؟
أنا مع الفريق الوطني في كل كلمة يقولها، وفي مقدمة ذلك هو أن السبب الأول هو التجمعات العائلية. لقد اعتقد الكثيرون من المتطعّمين أن بمجرد حصولهم على اللقاح بات لديهم «رخصة» لفعل ما يحلو لهم، فعادوا للاختلاط والزيارات وتخلوا عن الإجراءات الاحترازية، فانتشر الفيروس -الذي تحور بدوره وأصبح أقوى وأشد فتكا- كالنار في الهشيم.
لا بد أن أتوقف هنا عند شجاعة وشفافية الفريق الوطني المعني بالتصدي لكورونا، عندما يصارح الرأي العام يوميًا بعدد الفحوصات والإصابات والوفيات، ويكشف بكل دقة عن الأرقام حتى لو كانت مخيفة، فيما هناك ذات أعداد سكانية كبيرة تقول إن عدد الإصابات لديها منخفض جدًا، لكن الكثير يعرف أن هذا الأرقام المعلنة غير دقيقة لأسباب كثيرة.
الصحة مهمة جدًا، بل هي أهم ما أنعمه الله تعالى علينا، لكن الاقتصاد أيضا مهم، والوضع المالي في البحرين لم يكن في أفضل حالاته حتى قبل الجائحة، فما بالكم عندما عصفت الجائحة بدول العالم وتسببت بانهيار الشركات وارتفاع معدلات البطالة ودخول الملايين من البشر في دوامة الفقر، واضطرار حتى دول غنية مثل الولايات المتحدة إلى توزيع الأكل على مواطنيها الذين يصطفون في طوابير طويلة للحصول على وجبة طعام!
لذلك من حقنا جميعًا أن نفكر بالإسراع في فتح اقتصادنا مرة أخرى، واستقبال الزوار والسياح من خارج البحرين، وإيجاد موارد مالية إضافية بطرق مبتكرة، عبر تفعيل خطوط الطيران، وإنتاج اللقاحات في البحرين، وتشجيع مختلف القطاعات الإنتاجية، ومساعدة الشركات البحرينية على التصدير، وتنشيط القطاع العقاري، وغير ذلك من الأمور.
إن اللحمة الوطنية التي ظهرت من خلال مبادرة سمو الشيخ ناصر (عشان هذا العلم) تؤكد أننا قادرون على اجتياز هذه الأزمة الصحية كما اجتزنا أزمات سابقة وخرجنا منها أكثر قوة وإصرار على مواجهة التحديات وتحقيق الإنجازات، بل وعزَّزت مناعتنا ضد مختلف أنواع الأزمات مهما كانت غير متوقعة وداهمتنا بسرعة، وتؤكد حيوية الشعب البحريني والتفافه حول قيادته وتكاتفه في الظروف الصعبة ليعبر إلى بر الأمان.
اكتب هذا المقال والصحف أمامي على المكتب، وأقرأ فيها عن توجيهات جلالة الملك بشأن منح المواطنين البحرينيين في الخارج اللقاحات المضادة لكورونا، وأخبار أخرى عن افتتاح توسعة إضافية لاستقبال مرضى كورونا في مركز المعارض، وأقرأ أيضًا عن قصة الفتاة البحرينية البطلة «جورية» التي تحدت السرطان وتغلبت عليه وكتبت قصة كفاح ونجاح تجعل منها مثلاً أعلى لنا جميعا في مواجهة التحديات والتغلب عليها.