الصحافة الحرة.. نعمة أم نقمة؟

3-LO_1196

قصَّة حدثت معي ربما لم أروِها من قبل. في مطلع ثمانينات القرن الماضي كنت لازلت وافدًا جديدًا على البحرين، لا أعرف كثيرًا من الناس ولم أتعمّق بثقافة البلد وعاداته والعقل الجمعي له كما يجب، لكنني أعمل بحماس شاب متعطّش للنجاح والإنجاز، وكان أن حصلت شركتي، فورتشين بروموسِفِن التي أنشأتها في العام 1976م في البحرين على عقد كبير مع طيران الخليج، وهو أمر اكتشفت مؤخرًا أنه أثار استياءً كبيرًا لدى المنافسين.

في اليوم التالي ظهر مقال في إحدى الصحف البحرينية يذكرني بالاسم، ويهاجمني بضراوة، ويصفني بأقذع الصفات، والأنكى من ذلك أن نشر المقال تم في مكان بارز من الصحيفة، وبقلم واحد من أعمدة الصحافة في البحرين في ذلك الوقت.

تأثرت كثيرًا، وأصبت بصدمة، وضيق وحنق كبيرين، ودخلت في نوبة حزن عارمة، فقد كنت لا زلت غضًا طري العظم سريع التأثير هائج العاطفة في تلك الفترة المبكرة من حياتي، ولم أتقن بعد تكتيكات التعامل مع الرأي العام ومحاورة قادرة الرأي في المجتمع والدفاع عن النفس وفنون التأثير على الرأي العام.

هذا المقال أثار نقاشات عامة كبيرة وكثيرة، في جو صحي مكن جميع الأطراف المعنية؛ وفي مقدمتهم أنا طبعًا؛ من الدفاع عن النفس وعرض الحقائق والدوافع ووجهات النظر، وأفضل ما حدث في ذلك الوقت هو أن الصحفي المرموق كاتب المقال كان حريصًا على سماع وجهة نظري، حتى أنه اقتنع بموقفي وبما أقوله، وكما كان قويًا في كتابة المقال كان قويًا أيضًا في التراجع عنه وتصحيح اللبس الذي حصل، بل وبات واحدًا من أصدقائي المقربين.

أروي هذه القصة كإثبات على الجو الصحي والحوار الحضاري الذي بنيت عليه الصحافة في البحرين ولا تزال، ودفاعها عن الحقيقة والقيم بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى، وإعلاء المصلحة الوطنية على أي مصالح أخرى، إضافة إلى المهنية التي تحلّى بها الصحفيون على الدوام، وأدائهم لعملهم وفقًا لأعلى معايير المهنية والالتزام.

أستطيع تأكيد ذلك بحكم عملي اللصيق من خلال بروموسِفِن مع الصحف البحرينية وغيرها من صحافة الخليج، فقد كانت الصحافة في البحرين هي الأكثر تقدمًا خليجيًا إلى جوار الصحافة الكويتية، ثم شهدنا تقدمًا للصحافة في دول أخرى شقيقة مثل الإمارات والسعودية، ولا شك أن ذلك التقدم كان موازيًا للنهضة الاقتصادية والثقافية والعمرانية التي شهدتها تلك الدول في فترات لاحقة.

كنا ننفذ حملات إعلانية من خلال تلك الصحف، ونلتزم إلى أقصى حد بتقديم صفات المنتج أو الخدمة كما هي دون تهويل أو مبالغة أو ما يعرف في السوق بسياسة «اضرب واهرب»، وذلك حرصًا منّا على بناءِ علاقة ثقة طويلة الأمد مع الزبائن والأسواق، وهذا ما حقق لنا نجاحًا مستدامًا، وربما تأثرنا في توجهنا هذا بالصحافة نفسها، فقد كانت رصينة متوازنة في تقديم المعلومة بدون زيادة أو نقصان قدر المستطاع.

يقال إن الصحافة تخدم على الدوام سيدين هما المال أو السياسة، وربما يكون هذا منطقيًا ومفهومًا، لكن كلما تمكّنا من جعل هذا المال وطنيًا نظيفًا، والسياسة هي السياسة الوطنية العليا للدولة، نجحنا في توجيه الصحافة نحو خدمة أهداف التنمية، وحميناها من نفسها، وجعلنا نقطة الحكم على نجاحها هي مدى مساهمتها في ازدهار المجتمع وارتقائه بجميع مكوناته.

هناك من يتحدث عن حرية الصحافة، وهذا أمر جيد، لكن الحرية لا يمكن أن تكون منفلتة من عقالها، والنموذج اللبناني في حرية الصحافة خير مثال على ذلك، فكل وسيلة إعلانية تمثل تيارًا فكريًا وحزبًا سياسيًا ممولاً من جهة ما، غالبًا خارجية، وبدل أن تشتغل الصحافة في البناء والتنمية تحوّلت إلى معول هدم، وأصبحت منصّة لسب الآخر، الشريك في الوطن، وتجريده وربما إهدار دمه. 

الصحافة كلمة، وفي الأصل كانت الكلمة، وأول كلمة نزلت في القرآن الكريم هي «اقرأ»، والكلمات الطيبة الصالحة مهدت الطريق لحضارات بشرية متعاقبة عاشت على الأخوة والبناء، والكلمات السيئة حشّدت الناس خلف زعماء شعبويين مثل ستالين وماو تسي تونغ وقادتهم إلى حتفهم في حروب عبثية أغرقت البشرية بالدماء والدمار.

الصحافة سلاح ذو حدين، وخطورتها تكمن في استغلالها من قبل المتطرفين دعاة القتل والتدمير والوصول للسلطة والتحكم بمصائر الناس بأي وسيلة كانت، كما حدث في ألمانيا النازية في عهد وزير الدعاية النازي جوزيف جوبلز، الذي تمكن من استغلال الراديو بطريقة ذكية وخبيثة جدا، ودخل من خلاله إلى وعي الناس وتمكن من استلابهم ودفعهم للتصويت للحزب النازي، ثم دفعهم للحرب، حتى أنه كان يقنعهم بانتصار ألمانيا في وقت كانت طائرات الحلفاء تدك برلين.

لقد احتفل العالم مؤخرًا باليوم العالمي لحرية الصحافة تحت شعار «المعلومات كمنفعة عامة»، وما أجمله من شعار إذا تمعنا فيه، فالمهمة الأساسية للصحافة هي تقديم المعلومة، المعلومة الصحيحة عن مجريات الأحداث الصحية والسياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها، وليست صحافة النقل المتحيز والإثارة والتصيد والإساءة، والصحافة لا يمكن أن تكون مجرد وسيلة لتحقيق مآرب دنيئة، فهذا يفرغها من محتواها ويجعل منها أداة جرمية أكثر منها قناة للمعرفة.

الله أعلم وحده بالنوايا، لكن الصحفي يمكنه البناء كما يمكنه التدمير، واعتقد أن على كل مؤسسة صحفية أن تدرس تمامًا خلفيات أي صحفي وتوجهاته الفكرية قبل أن توظفه وتمنحه منصة للتعبير عن رأيه والتأثير في الرأي العام. وعلى الصحفي ذاته أن يكون عميق الفكر واسع المعرفة قارئًا جيدًا للتوجهات الراهنة مدرك تمامًا لجميع حيثيات القصة التي يقدمها للقارئ، حتى يتمكن من إضافة شيء جديد نافع في إطار ممنهج، وألا يقبل أن يكون أداة بيد أحد، بل أن يكون دائمًا منتصرًا لقيادته ووطنه.

لقد استخدم إنسان الكهف النار كوسيلة اتصال وتواصل مع أخيه الإنسان، وتطورت الأمور حتى اخترع الكتابة وباتت وسيلة لنقل المعلومات ليس بين الإنسان ومحيطه من البشر فقط، بل بين الأجيال المتعاقبة أيضًا، وتطورت الأمور حتى اخترع الإنسان التلغراف والفاكس والراديو والهاتف والتلفزيون ثم الانترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي، وجميعها لتحقيق الغاية القديمة ذاتها: التواصل الفعال بين بني البشر، فلنحرص نحن على جعلها كذلك، وننأى بها عن أية مآرب أخرى تؤدي إلى التقوقع والشقاق والفتن، فقد بات كل إنسان صحفي وناقل للمعلومة بشكل أو بآخر، وبُتنا أكثر فأكثر مسؤولين عن المساهمة في نشر الحقائق وإشاعة التفاؤل والإيجابية.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s